أخر الاخبار

إسلاميات

شعر

خواطر

التفكير الإيجابى

فكر و معرقة

ثقافة و فنون

تنمية شخصية إيجابية

الأربعاء، 31 يوليو 2013

بين فكر الأزمة وأزمة الفكر

0 التعليقات
على مرِّ التاريخ لم تتطوَّر أُمَّة أو حضارةٌ إلاَّ بالأزمات، التي كانت - في كل مرَّة - تقودها إلى تَجديد فِكْرها، مع تجديد عمْرانِها وأبنيتها، إنَّ الأزمة هي التي تُعطي لَها الفرصة للتَّجديد، ومُجاوزة أخطاء الماضي؛ ذلك أنَّ الأزمات هي الأصل في الحياة.

وما يُقال عن الفرد يقال عن الجماعة؛ فالفرد حين ينشأ أوَّل الأمر، ينشأ معزولاً عن كلِّ مشكلة، ومع مرور الأيام تتَثاقل المشاكل على كاهلِه، فقُوَّة شخصيته تَجعله يرى في كلِّ مِحنة مِنْحة، وفي كلِّ مشكلة فُرْصة، تَجعله يُدْرِك يقينًا أنَّ الليالي الحالِكَة تزيد النُّجوم بريقًا، وأن الضَّربة التي لا تُسْقِطك تقوِّيك، وهذا ما يَخلق له رصيدًا من التَّجربة تُشكِّل عنده مناعةً ضدَّ ما يمكن أن يُسْتَنسخ من المشاكل.

وإذا ما رجَعْنا قليلاً إلى الجماعات والمنظَّمات والدُّول، سلَّمْنا أنه مرَّ عليها من الأزمات ما كان من الواجب أن يصلِّب لديها روحَ المقاومة، ويَستخرج من داخلها كلَّ مكامن القوَّة والقدرة على تَجاوُز تلك الأزمات، وهنا لا بُدَّ لنا من الإشارة إلى أنَّ درجة النُّضج تلعب دورًا مهمًّا في تلك الأزمات؛ بحيث قد يكون لبعض الجماعات من النُّضج ما يَجعلها تَمْلك القدرة على التنبُّؤ بالأزمات، مِن خلال جهاز إنذار تطوُّر مع كل ضخٍّ تربويٍّ وفِكْري وثقافي، واستجابات لتحديات العصر ومتطلَّباته من غير توقُّف.

والْمُلاحَظ أنَّ الأزمات في عصر العولَمة تنمو نُموًّا مُتسارعًا غيْرَ طبيعي، تتداخل فيه مؤثِّراتٌ متعدِّدة، بما لا يدَعُ الفرصة لأيِّ انتباه، خاصَّة عندما يسود جوٌّ من المشاحنة، وتبَلُّدِ الإحساس، والانتصار للمصلحة على حساب المبدأ، والعاجلِ على حساب الآجل، فإنْ وقَع ذلك سيكون مضاعفًا على الفِكر، الذي يُمثِّل حلقة الوصْل بين الواقع والمثال، وبين الممكن والْمَأمول.

ولَمَّا كان فِكْرُ الأَزْمة هو ذلك الفكْرَ الذي ينشأ كَردَّة فعلٍ عن الأزمة، كان من الضرورة بِمكانٍ الإشارةُ إلى بعض النِّقاط المهمَّة؛ حتَّى يُصبح هذا الفكْرُ وَقودًا محرِّكًا نحو الأمام، والخروج من الأزمة، والمتمثِّلة في:
1 - التفكير السليم:
فهو بدايةٌ وخُطْوة أُولى نَحو التصرُّف السليم، فلا يُنتظَر مِمَّن يُعاني قصورًا فكريًّا، أو تبَعيَّة فكريَّة، أو يَخضع لِبَرمَجة ثقافيَّة صمَّاء، أو تقف أمام سلامة تفكيره عقباتٌ متعددة، أو فجوات فكريَّة متنوِّعة - أن يَمتلك القُدرة على التفكير، بل سيصبح كمن يَنتظر الرِّعاية من غيره، أو يَسْتجدي حلولاً من الناس.

إنَّ المناعة الفكرية هي سِرُّ الصُّمود في الأزمات، وتِرْياقُ العلاج لِمُختلف الْهزَّات، فبعض الأفراد مثلاً بقي أسيرَ مرَضِ الكمال والأوهام، مع هزَّةٍ خفيفة تَهاوى؛ لأنَّ البيت الذي بَناه نُسِج من خيال الكتب والمُحاضرات والخُطَب الرنَّانة.

إنَّ أزمة وهْم الكَمال هي التي تَجعل صاحِبَها يتهاوى عند كمال الأزمة واشتدادِها؛ فهو لا يضع للتجربة معنًى، ولا للزَّمَن دَوْرًا، ولا للنمُوِّ والتطوُّر قيمةً، فقد غفل عنْ أنَّ الوعي يُولد مع الحركة، ويَنمو بنمُوِّها، ويتطوَّر بتطوُّرِها.

عند الأزمة يجب أن تتَّسِع الرُّؤَى لتتلمَّس الآفاقَ البعيدة؛ لأنَّ المرحلة تقْتَضي أن ينشغل الناسُ حينَها بالباب المفتوح، عِوَضَ الانشغالِ بالباب الذي أُغلق، ولكنَّ أزمة الفكر في العقل العرَبِيِّ هي أزمة اختزال، فالأزمة الواحدة قد تَشْتمل على عدَّة حوادث مُختلفة مِن حيث ما تَحويه من الخير والشَّر، فهل مِن المنطق السَّليم أن نعمِّم الخيْرَ الْمُطلَق فيها، أو الشرَّ المطلق؟
إنَّ فجوة التعميم تزيد غُموضَ الرؤية، وعُزوفَ النَّاس عن العمل، فالألوان ليستْ أبيضَ وأسْودَ فقط.

في الأزمة عادةً ما تُمارِس البرمَجةُ الصَّماءُ دورَها في توجيه العقول والقلوب، خاصَّة لَمَّا يزيد تأثيرُ الْهالة على الأفراد، بِما يُضْفِي على بعض الناس نوعًا من القُدسيَّة، يَجعلهم يُسْهِمون في توجيه الناس وحَصْرِهم في زاوية من الزَّوايا، تَمنعهم من الرُّؤية الكاملة، وحُسْنِ التَّشخيص الذي يوصِّلهم إلى العلاج، غير أنَّ مَحدودية الرُّؤية تحصرهم في دائرة من الصراع حول القشور، والتغريد بعيدًا عن السِّرْب، والعيش خارج العصر.

عند الأزمة تُصبح لُعبة المصطلحات سيِّدةَ الموقف، لا من حيثُ التوصيفُ والتدقيق، بل من حيث الاستغلالُ والتَّحوير، فكثير مِن الناس يستعمل مَقُولاتٍ قديمةً لَم يكلِّف نفسه حتَّى عناءَ البحث في صحَّتها، فضلاً عن صلاحيتها لِهذا الزَّمان أو غيره، فكم من مُنتَحِرٍ مات باسْم الجهاد! وكم من مُنْزلقٍ انزلق باسم التَّقْوى! وكم من مفرِّق فرَّق باسم الولاء! وهذا كلُّه ينحرف بنا دائمًا عن لُبِّ الموضوع.


2 - فَهْم الواقع:
إنَّ الواقع يَحتفظ لنفسه بقدْرٍ كبير من التعقيد والتَّشابُه؛ ولذلك كان من الضرورة بِمكانٍالتَّوصيفُ الجيِّد للمصطلحات، والفَهْمُ الدقيق للمفاهيم، وسيكون من المفيد جدًّا أن نبدأ دائمًا بذِكْر التَّعريف لِما نُريد بَحثَه، وتَحديد معاني المصطلحات التي سنستخدمها أثناء البحث، وهو ما يَجعَلُنا نُدْرك صعوبةَ هذا العمل وفائدتَه الكبيرة في آنٍ واحد.

وحينَها فقط سنضَعُ أرجُلَنا على العتبة الأولى من فَهْم الواقع، كما لا ينبغي أن نَغْفل عمَّا للمكان من قُدْرة رهيبة في توليد الْمَشاعر والمفاهيم المشترَكة بين أفراده، دون أن ننسى أن العولَمة وما تَحْمله مِن تناقُضاتٍ بِما جاءت به من ثورةٍ على الحدود والقيود، قد حَملتْ في طيَّاتِها مشاعرَ الفردية، حتَّى أصبحتْ كلُّ دولةٍ تَلُوذ بِمُحيطها الإقليمي وتوسِّعه، فأثناء الأزمات تُصنع الانتصاراتُ والانكِسارات من الدَّاخل، وأعظم الحروب تلك التي كانت في غُرَف مغْلَقة مع الأنفس، فهناك تُصْنع الانتصارات، وتَكون الهزائم.

ولَمَّا كان التغييرُ من الدَّاخل إلى الخارج، كانت النَّهضة من الدَّاخل إلى الخارج، وكانت الانتصاراتُ الفردية سابقةً للانتصارات الجماعيَّة، فعند الأزمات ينبغي أن يكون للوطنِ قيمةٌ ومعنًى، ينبغي أن يتعزَّز كوسيلةٍ لتوجيه الناس نَحو الغاية العظمى دون غلُو أو شوفينية.

عند الأزمات ينبغي أن يتحسَّس الفِكْرُ نبْضَ العصر، ويتجدَّد بما يتلاءم مع لُغَة العصر، فلا ينبغي أن تَحْصرنا الأزمة في زاويةٍ ضيِّقة، ننشغل فيها عن اللُّب بالقشور، ونفقد معها كلَّ قدرة على التطوُّر، والاستجابة للتحديات؛ لأنَّ إدمان الطوارئ يُشْعر صاحبه بالأهميَّة التي تَحْصر صاحبها في زاوية تَجعله يعيش خارج عصره، وتكبِّله بأوهام المؤامرة والمثاليَّة، وتجعله أسيرًا للتَّاريخ والماضي.

3- الْمناعة الفكرية:
عند الأزمات يَظهر دورُ الْمَناعة، مثلَما يَظهر دورُها عند مرض الجسم، المناعة الفكرية هي تلك المناعة التي تحصن الإنسان من الأمراض، وصدَق مالِكُ بن نبي حين قال: إنه قبل حكاية كلِّ استعمار هناك قصَّةُ شعب قابلٍ للاستخذاء، فلا نُغالي حين نقول: إنَّ التسلُّط والدِّكتاتورية هي نِتاجُ تسَلُّط الجهل وقلَّة الوعي، وانتشار ثقافة الخنوع والتَّبعية في المُجتمعات، فما قيمة مَن يَنتدب شخصًا آخرَ ليفكِّر مكانه، ويُقرِّر دونه؟!

إن الظُّلم الذي ناله التحرُّر الفكريُّ، والتبعيَّة للغير التي تفنَّنَت الأنظمة التربويَّة في التمكين لها، خلَقَتْ عند الأمة الإسلامية أزمةَ قيادة، فالأُمم عند الأزمات تبحث عمَّن يقودُها نَحو النَّصر، ولعلَّ المرَض الأكبر عند أمَّتِنا أن أشعَّة النَّقد دائمًا موجَّهةٌ نَحو الخارج، أمَّا الداخل فهو من المقدَّسات التي لا يتحدَّث عنها، إنَّ الفكر المنيع فِكْر قادرٌ على الاستمرار حتَّى في عصر العولمة الذي يتَسارع فيه الضخُّ الثقافي، وتتعدَّد فيه الأفكار، فإذا لم يتغيَّر الإنسان ويتطوَّر فسوف يفْنَى؛ لذلك كان من الواجب السَّيْرُ في تنمية قدرات الإنسان الفكريَّة؛ لينسجم ومتطلَّبات الْمَرحلة، ويتحصَّن عن كلِّ اغتراب فكري، أو استلاب حضاري.


تابع القراءة Résumé abuiyad

الفكر الخلدوني في العصبية والعروبة

0 التعليقات

الفكر الخلدوني في العصبية والعروبة


لم تحتَلَّ مشكلةٌ من مشكلات الفكر الخلدوني بخاصة، والفكر التاريخي الإسلامي بعامة، المكانةَ التي احتلتْها نظرية ابن خلدون في العصبية، ودورها في قيام الدول وسقوطها.

وحول هذه المشكلة (العصبية والدولة) قدَّم الدكتور "محمد عابد الجابري" أطروحته في الفلسفة، وأمضى عشر سنوات في البحث، ساعيًا للوصول إلى "معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي"، ومع أنه بذل جهدًا علميًّا ضخمًا، إلا أن عمله الكبير لم يخلُ من بعض الاستنتاجات الخاطئة، وإن كنا نعترف بأنه أقرب إلى الموضوعية والعملية، من أمثال: "عبدالله العروي"[1]، وعلي أومليل[2]، وساطع الحصري[3]، ومهدي عامل[4]، ونور الدين حقيقي[5]، وغيرهم، فضلاً عن الدكتور طه حسين الذي لم يتوافر لدراسته عن "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية"[6] الحدُّ الأدنى من شروط المنهج العلمي.

والفرق بين ما كتبه الجابري وهذه الدراسات، يشبه الفرق بين العمل العلمي الأكاديمي، والأعمال التي لا يحكمها المنهج؛ وإنما توجِّهها أيديولوجياتٌ مسبقة، تسعى إلى قهر النص وتوجيهه وجهةً تأويلية لحساب عقيدةِ كاتبِها.

كانت العصبية هي المفتاحَ الذي حل به ابن خلدون جميعَ المشكلات التي يطرحها سيرُ أحداث التاريخ الإسلامي إلى عهده، وقيمةُ آراء ابن خلدون تكمن في الإشكالات العديدة التي تطرحها نظريتُه في العصبية والدولة، وفي العلاقة القائمة بينهما، هذه العلاقة التي تُحدِّد في نظر ابن خلدون شكلَ العمران، وتجسِّد حركة التاريخ[7].

ومن خلال عدد من التساؤلات يقِيم الجابري دراسته الكبرى حول نظرية العصبية عند ابن خلدون:
لماذا تتحول العصبية من مجرد رابطة سيكولوجية اجتماعية إلى قوة للمواجهة والمطالبة، ومن ثم تأسيس الملك والدولة؟ لماذا تضعف العصبية بمجرد بلوغها غايتها من المُلك، والشروع في جني ثمراته؟ لماذا تفسُدُ العصبية بالترف والنعيم؟ لماذا تسقط الدولة بفساد عصبيتها؛ لتقوم عصبية جديدة بتأسيس دولة جديدة؟ ثم لماذا كانت الحضارة "غاية للعمران، ونهاية لعمره، مؤذِنة بفساده"؟ وأخيرًا لماذا كانت حركة التاريخ الإسلامي حركةَ انتقال من البداوة إلى الحضارة، حركة تسير لا على خط مستقيم؛ بل على شكل دَوْرة؟[8].

وهذه النظرية الخلدونية التي يدير عليها الجابري بحثَه الكبير من خلال هذه التساؤلات - ترتبط بها - من وجهة نظرنا - قضيتان، هما مناط عنايتنا في هذا المقام:
أولاهما: صلة الإسلام بهذه العصبية.
ثانيهما: موقف الفكر الخلدوني من العنصر العربي.

ليست العصبية الخلدونية مرحلة واحدة تقف عند النسب والمصاهرة والدم؛ وإنما كانت هذه المرحلة هي الأساس - على الأقل - في مستوى البدو الذين كانوا موضوع البحث الاجتماعي والحضاري عند ابن خلدون، إن هذه العصبيةَ القائمة على الرحِم القريب في أقوى حالاتها الخاصة، والبعيد في حالاتها العامة - تتطور لتتجاوز النسب، وتصبح التحامل الحاصل بسببه؛ حيث تفقد العصبية معناها النسبيَّ بعد أربعة أجيال، فتصبح الجماعة العينة - أو العصبية - أقرب إلى الجماعة التي جمعها العيش لفترات في مكان معين، وارتبطت مصالحُها المشتركة؛ بحيث وجب عليهم أن يكونوا "قوة للمواجهة" في وجه التحديات.

وفي مجتمع البادية تبرز عصبية المستوى الأول (الخاص)، وفي مجتمعات العمران أو الحضارة يبرز المستوى العام؛ فعصبية البادية قابلةٌ للتطور مع الانفتاح على العمران، والمجتمع المتحضر تظهر فيه آفاقٌ جديدة للتعاون والتكافل، والدينُ أو الدعوة الدينية، سواء أكانت نبوة؛ كما وقع على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم دعوة إصلاحية؛ كما رأينا في العصر الحديث على يد محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - تصبح الأكثر تفوقًا على العصبية في المستوى الأول؛ فهي الأقدر على جمع القلوب وتأليفها: ﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 63]، وهكذا كما يقول ابن خلدون: فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، ويُذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخُذهم بمحمودها، ويؤلِّف كلمتَهم لإظهار الحق، تم اجتماعُهم، وحصل لهم التغلبُ والملك[9]، بل يسرع ابن خلدون في عبور هذه المرحلة البدوية إلى مرحلة العصبية الدينية الجامعة، فيرى أن وحدة الدين تزيد العصبيةَ بالنسب قوة، وتصبح قادرة على إحداث انقلاب في الأوضاع، يتجلَّى في تحوُّل هؤلاء الرعاة الحفاة الموغلين في الفيافي والقفار إلى بُناةِ حضارة، ومشيِّدي عُمران، ومؤسسي ممالك ودُول[10].

بل إن ابن خلدون يكاد ينفصل عن عصبية النسب والدم إلا في مستواه البدوي، حين يقرر أنَّ ما من دولة كبيرة إلا وأصلها الدِّين (إما بالنبوة أو دعوة حق)[11]؛ فالدعوة الدينية تزيد الدولةَ في أصلها قوةً على قوة العصبية؛ بسبب أن الصِّبغة الدينية تَذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية، وتُفرِد الوجهة إلى الحق، فإذا حصل لهم الاستبصارُ في أمرهم، لم يقف شيءٌ لهم؛ لأن الوجهة واحدة، والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه؛ فالعلاقة بين العصبية والدين علاقة تآزُر وتكامل، وبالدين وحده تتطور هذه العصبية - التي تشكل مؤقتًا ومرحليًّا بُوتقة التحام وانصهار - إلى مشروع حضاري تذوب فيه العصبية، وترتفع فيه الأخوة الإسلامية التي تجعل "سلمان منا أهل البيت"، "وأبو بكر سيدُنا وأعتق سيدَنا"؛ أي: بلالاً الحبشيَّ - رضي الله عنهم.

ومن الطريف أن الدكتور "محمد عابد الجابري" كاد يقترب من هذه الحقائق، بينما نجد بعض أساتذة الفكر الإسلامي المخلصين له، يأخذون على ابن خلدون رأيه في العصبية[12]، دون أن يُبصِروا مساحةَ هيمنة الدين على العصبية، الهيمنة شبة الكاملة عنده، إن رأيَ ابن خلدون - كما استخلصه الجابري - يتلخَّص في أن قوة العصبية مستمدة أساسًا من (الالتحام)، الذي هو ثمرة النسب، فإذا أضيف إلى هذا الالتحامِ الاجتماعي التحامٌ آخرُ روحيٌّ، كانت العصبية من القوة بحيث لا يقف أمامها شيء[13].

ويتألق المعنى الإسلامي للعصبية حين يتحدث ابن خلدون عن جماعات الإصلاح أو التغيير أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذين لا يملكون قوة حقيقية للتغيير، فيدمرون أنفسهم، ويُسِيئون إلى الإسلام، فكأن العصبية إذًا تقوم على أي قوة قادرة على التغيير، وليس على العصبية القَبَلية والقومية.

فابن خلدون يرى أن تغيير الأوضاع الفاسدة لا يتأتى مطلقًا بمجرد الدعوة إلى أوضاع أحسن، بل لا بد من قوة مادية تنصر هذه الدعوة، والقوةُ المطلوبة هنا - وفي كل حالة مماثلة - هي العصبية؛ ولذلك نجده ندَّد - بقوة - بدُعاة الإصلاح، الذين بسبب جهلهم للطبائع ولأهميةِ العصبية على العموم - يكلِّفون أنفسَهم وأتباعهم من العامة ما فوق طاقتهم، ولا يحققون شيئًا سوى إثارة الفوضى، ونشر الاضطراب[14]، يقول ابن خلدون في هؤلاء المتهورين أو المتطرفين: "ثم اقتدى بهذا العمل بعدُ كثيرٌ من الموسوسين، يأخذون أنفسهم بإقامة الحق، ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية، ولا يشعرون بمغبة أمرهم، ومآل أحوالهم، والذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء، إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون، وإما التنكيل بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجًا، وإما إذاعة السخرية منهم وعدُّهم من جملة الصفاعين"؛ أي: الكذابين[15].

ومع أن الدكتور مصطفى الشكعة يندهش كثيرًا مما ذهب إليه ابن خلدون في شأن ارتباط إتمام الدعوة الدينية بالعصبية، وأن هذه الدعوة من غير عصبية لا تتم[16]، إلا أنه يعود ويذكُر أن ابن خلدون ينقُض ما ذهب إليه في شأن العصبية؛ حيث يفرد فصلاً عنوانه: (الدول العامةُ الاستيلاءِ، العظيمةُ المُلكِ، أصلُها: الدين) [17]، مقللاً من شأن العصبية، رافعًا من شأن الدين!

والحقيقة أن العصبية مرحلة خاصة، وظرف حضاري وتاريخي، والدين يكتنفها ويوجِّهها في إطارها الحضاري؛ إطار: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ [الأنفال: 63].

وهكذا نجد أن صلةَ الإسلام بالعصبية في الفكر الخلدوني، إنما هي صلة الرُّوح بالمادة؛ فالدين هو الذي يجعل من هذه (الكائنات القومية) كائناتٍ قابلةً للحضارة والفعالية والإبداع، والخروج من مستوى التحديات المناخية والجغرافية والعدوانية القَبَلية، إلى مستوى المشروع العالمي الرُّوحي والعقلي والخُلُقي والمادي، والذي يقدم حضارة منفتحة لائقة بإنسانية الإنسان، واستخلاف الله للإنسان؛ من أجل تحقيق العمران، وليس في فكر ابن خلدون أي تناقض، بل هو تدرُّج فكري يتناغم مع الظروف والأوضاع، فإذا تركنا موقف الإسلام من العصبية، ومن المنهج الخلدوني على النحو الذي بسطناه، وانتقلنا إلى الإشكالية الثانية، وهي موقف ابن خلدون - أو الفكر الخلدوني من خلال نظرية العصبية - من العنصر العربي؛ وجدنا أنفسنا أمام موقف حادٍّ ثار حوله لغطٌ كبير، واختلفت فيه الآراء اختلافًا جذريًّا، إن القوميين العرب - مثلاً - لن يسمحوا بأن تحتلَّ آراء ابن خلدون في العنصر العربي مكانتها في الوعي الإسلامي والعربي بهذا الشكل الذي قال به ابن خلدون؛ فهم بين خسارتين، كلتاهما فادحة؛ إما خسارة المكانة المتميزة للعنصر العربي بمحض جنسيته العربية بالإسلام أو بدون الإسلام، وإما التضحية بابن خلدون، وهو بالنسبة لهم مفخرة عربية رائعة، لا يجوز التضحية بها، ورَمْيُ صاحبها بالشعوبية ضد العرب، ومن ثم تَرْك آرائه في العرب تتصدر الآراء، فتَحُول دون المد القوميِّ والسيادةِ العربية القائمة على الجدارة الذاتية.

ومن الطريف أن بعض الإسلاميين العرب يلتقون تمامًا مع جموع القوميين في هذه المنطقة.

لقد كتب العلامة ابن خلدون سبعة فصول، تقدِّم عناوينُها أسلوبًا واضحًا، بل يراها بعضهم تشكل منظورًا متطورًا استفزازيًّا أو عدوانيًّا ضد العرب، وفي الفصول السبعة تَرِدُ العناوين على النحو الآتي:
فصل في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط[18].

فصل في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب[19].

فصل في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية؛ من نبوة، أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة[20].

فصل في أن العرب أبعدُ الأمم عن سياسة الملك[21].

فصل في أن العرب أبعدُ الناس عن الصنائع[22].

فصل في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب[23] إلا في الأقل.

فصل في أن حَمَلة العلم في الإسلام أكثرهم العجم[24].

وما أظن هذه العناوين غامضةً أو تحمل تأويلاً!

وما أظن العلامة عبدالرحمن بن خلدون - وهو الفقيه المالكي، وعالم الأصول واللغة - عاجزًا عن التعبير عن أفكاره بدلالات لغوية محددة، لا سيما وهو يتكلم في قضية خطيرة تهم شعبًا كاملاً، اختصه الله بالرسالة الخاتمة، وأنزل بلسانه العربي آخرَ الكتب السماوية، وجعله المهيمن عليها، والمقوِّم لما داخَلها من انحراف فكري ولغوي!

ولئن عجز رجل في مستوى ابن خلدون عن تقديم أفكاره بطريقة محددة في قضايا خطيرة على هذا النحو، فإن ذلك يمثل مشكلة أخرى، قد تجرنا إلى منهج سوفسطائي، أو حسب التعبير الذي نفضله: منهج (زئبقي)، يسمح بكل إسقاط وبكل احتمال، ويقود - في الحقيقة - إلى ضياع فكري شامل، وهو أمر يتعارض مع منهج أسلافنا، الذي عُرِفوا بالدقة والتحري في استعمالاتهم اللغوية، وقدروا خطورة المصطلحات؛ نظرًا لِما ينبني عليها من أحكام تشريعية ومفاهيمَ عقيدية.

ومن الجدير بالذكر أن ابن خلدون عندما قدَّم هذه العناوين القاطعة الحاسمة التي ذكرناها، والتي تربط بوضوح كامل بين ازدهار العنصر العربي بالإسلام حين يتمثله فكرًا ومنهجًا، وبين انحطاطه حين يتخلى عنه - لم يكتفِ بتقديم هذه الأحكام المجملة، بل قدم لكل عنوان أو (حكم) أسبابَه وتفسيراته التي تبرره؛ فعندما يصف العرب بأنهم قوم لا يتغلبون إلا على البسطاء، وبأنهم لا يقتحمون معركة أو مجالاً، إلا إذا كان الأمر سهلاً ميسورًا لا يحتاج إلى مكابدة، أو تخطيط أو أساليب دقيقة تحقِّق الغلبة، وعندما يصفهم بهذه الصفة التي تجعلهم أقربَ إلى المنتهزين المغتصبين، يبرِّر ذلك - عن عمد - بطبيعة التوحُّش فيهم؛ وذلك لأنهم أهل انتهاب وعبث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر، ويفرون إلى منتجعهم بالقفز، ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة، إلا إذا دَفَعوا بذلك عن أنفسهم[25].

وعندما يصف العربَ بأنهم لا يحصل لهم المُلك إلا بصِبغة دينية؛ من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة، يعتمد على هذا العنوان الطويل الذي يكاد يحمل حيثياتِهِ معه، في ملاحظة واعية تضبط الحكم ضبطًا علميًّا ودلاليًّا بطريقة كاملة، ومع ذلك فهو لا يكتفي بهذا، بل يقدِّم حيثيات إضافية لحُكمه على العرب: "فطبيعتهم انتهابُ ما في أيدي الناس، وإن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حدٌّ ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينُهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه، فإذا تم اقتدارُهم على ذلك بالتغلب والملك بطَلت السياسةُ في حفظ أموال الناس وحرب العمران"[26].

وليس الأمر أمر (طبيعتهم) فقط، بل إنهم في المستويين الاجتماعي والسياسي لا يصلُحون بغير دين، وهم "يتنافسون في الرئاسة، وقلَّ أن يسلِّم أحدٌ منهم الأمر لغيره، ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل، وعلى كُرْهٍ من أجل الحياء، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام؛ فيفسد العمران وينتقض"[27].

فابن خلدون يجرِّد العرب من إمكانية أي استقلال عن الدين؛ فجذورهم البدوية لا تسمح بذلك، وطبيعتُهم التي اكتسبوها عبر تاريخهم شكَّلتهم تشكيلاً خاصًّا، فإما أن يقودَهم "وحي" أو فكرة دينية، وإما أن يتآكلوا، أو يكونوا تبعًا لدول كبرى محيطة بهم!

وعندما يصور ابن خلدون العربَ بأنهم أبعد الأمم عن صناعة الملك والدولة تأكيدًا لرأيه السابق، يدعم رأيه ذلك بأن العرب نظرًا لخُلُق التوحُّش الذي فيهم أصعبُ الأمم انقيادًا بعضهم لبعض؛ للغِلظة والأَنَفة وبُعْد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية، كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خُلق الكِبر والمنافسة منهم؛ فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المُذْهِبِ للغلظة والأَنَفة، والوازع عن التحاسد والتنافس[28].

فالدين هو الذي يوحِّدهم ويجعلهم ينقادون لأمير أو نبي، ويعالج أمراضَهم الأخلاقية العنصرية، ويهذِّب وجدانهم، ويعطيهم الدافع الحضاري لصناعة الملك والامتداد في الأرض.

وعندما يأتيهم الملك، فإنهم - أي: العرب - لا يصلحون أيضًا لقيادته من غير دين، بل سرعان ما يأكل بعضهم بعضًا، ويبيع بعضهم بعضًا للأعداء؛ وذلك لأنهم "أكثر بداوة من سائر الأمم، وأبعد مجالاً في القفر، وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها؛ لاعتيادهم الشظف وخشونةَ العيش، فاستغنوا عن غيرهم؛ فصعُب انقياد بعضهم لبعض؛ لإيلافهم ذلك وللتوحش"[29].

وتاريخهم - كما يرى ابن خلدون - هو أكبر دليل على ذلك؛ فإن العرب لما ذهب أمرُ الخلافة منهم، انقطع الأمرُ جملة من أيديهم، وغلب عليهم العجم دونهم، وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك ولا سياسته، بل قد يجهل الكثير منهم أنهم قد كان لهم ملك في القديم[30].

ولمزيد تأكد ووضوح يقول ابن خلدون أيضًا:
"وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد، فلا يكون مآلُه وغايته إلا تخريبَ ما يستولون عليه من العمران"[31].

فالعرب لا يصلحون للتعامل مع الدولة والملك من غير دين، لا في أول الأمر؛ أي: في مرحلة إنشاء الدولة، ولا في وسط الأمر؛ أي: في مرحلة السيطرة على الدولة، بله التخطيط لاستمراريتها، والحفاظ على ثوابتها أو دعائمها ومقوماتها، بل كثيرًا ما يفرِّط العرب (اللادينيون) في ثوابت دولتهم وأمتهم، ويبيعونها للأعداء، ويتنازلون حتى عن لغتهم وتاريخهم وما بقِيَ من دينهم، وحتى لو حصل لهم نزو طارئ على دولة، فهم يقودونها إلى الخراب بسرعة كبيرة، وذلك كله - كما يرى ابن خلدون - عندما يكونون من غير دين؛ أي: من غير الإسلام!

وبدهي أن يكون هؤلاء الناس أبعدَ الأمم عن الصنائع والعلوم العقلية؛ فذلك نتيجة منطقية لقوم يرفضون أن يحترموا طبيعتهم الفطرية، ويريد لهم بعضهم أن يمشوا في التاريخ من غير الإسلام.

ومع كل هذا الذي يقدمه ابن خلدون من أحكام وتعليلات، فإن المتعصبين للقومية المستقلة المعادية للإسلام - بدلاً من مناقشة القضية في ضوء تاريخ العرب الذي يصوِّرُ طبائعهم قبل الإسلام وبعده، والخروج بنتيجة واقعية تقويمية لهذه الآراء - أراحوا أنفسهم، والتقى بعضُ الإسلاميين معهم فقالوا: إن ابن خلدون يقصد شريحةً معينة من العرب، وهي شريحة الأعراب والبدو!

فأستاذنا الدكتور عبدالواحد وافي - رحمه الله - في بداية عرضه للقضية - وقبل القيام بعملية التحليل - يصدر النتيجة المريحة قائلاً: "والحقيقة أن ابن خلدون لا يقصد من كلمة "العرب" في مثل هذه الفصول الشعب العربي؛ وإنما يستخدم هذه الكلمة بمعنى الأعراب أو سكان البادية الذين يعيشون خارج المدن، ويشتغلون بمهمة الرعي"[32].

ثم يبدأ الدكتور وافي عرض النصوص الواردة في المقدمة، وإرغامها على الوصول إلى النتيجة التي استهل بها دراستَه.

ويلتقي أستاذنا الدكتور مصطفى الشكعة مع أستاذنا الدكتور وافي - رحمه الله - في الباب الثامن من كتابه حول: (الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته)، يعالج أستاذنا الشكعة - أطال الله عمره - موضوع "ابن خلدون والعرب"، وينتهي بعد عرضه لآراء مَن يرون تحامل ابن خلدون على العرب، ومن يرون العكس إلى أن هذه الصفاتِ التي ذكرها ابن خلدون لا تنطبق إلا على الأعراب دون العرب، ويأسف لأن مؤرخنا الكبير يتورط في مثل قوله في العرب: "وانظر إلى ما ملكوه وتغلَّبوا عليه من الأوطان مِن لدن الخليقة، كيف تقوَّض عمرانه، وأقفر ساكنه، وبدلت الأرض فيه غير الأرض؛ فاليمن قرارهم خراب، إلا قليلاً من الأمصار، وعراق العرب كذلك، قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع، والشام لهذا العهد كذلك، وإفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أول المائة الخامسة وتمرسوا فيها لثلاثمائة وخمسين من السنين، قد لحق بها وعادت بسائطه خرابًا كلها، بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمرانًا".

فرأي الدكتور الشكعة هو رأي الدكتور عبدالواحد وافي إلى حد كبير، وإن اختلفت الأدلة وأساليب الاستنتاج والتحليل، وقد ناقش المفكرانِ الكبيران كلاًّ من الدكتور طه حسين في رسالته بالفرنسية عن: "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية"، والأستاذ محمد عبدالله عنان مترجم كتاب طه حسين، ومؤلِّف كتاب: "ابن خلدون حياته وتراثه الفكري"، وفي رأيَيْهما اللذين ذهبا فيهما إلى أن ابن خلدون كان يقصد الشعب العربيَّ كله، ونحن نوافقهما في دحض آراء طه حسين، التي حاول من خلالها الاعتمادَ على رأي ابن خلدون لاستعداء العرب ضده، والذهاب إلى ازدرائه، ورفض كل فكره التاريخي خدمةً لأساتذته في باريس، كما أننا لا نوافق الأستاذ "عنان" في أن باعثَ ابن خلدون على التحامل على العرب - إن كان هناك تحامُل - هو ولاؤه للبربر وللدول البربرية التي عاش في كنفها؛ فهذه اجتهادات جانَبَها التوفيقُ إلى حد كبير!

ويتجه إلى هذا المنحى في محاولة تبرئة العرب مما نسبه إليهم ابنُ خلدون - مع التزامه بالرؤية الإسلامية -: الأستاذُ (محمد العبدة) عند تحليله لمصطلح (العرب) في مقدمة ابن خلدون؛ فقد رأى أن هذا المصطلح من أكثر المصطلحات التي ثار حولها الجدلُ عند دارسي المقدمة؛ فقد استعمله ابن خلدون تارة بمعنى البدو، وتارة بشكل عام، أو الجنس العربي، فصبوا جام غضبهم عليه، واتهموه بالشعوبية، وقد تبيَّن لي - أي: للأستاذ محمد العبدة - أنه يستعمل كلمة (العرب) في الغالب للقبائل التي تعيش على رَعْي الإبل؛ فهم لهذا أكثر الأمم بُعدًا عن التحضر؛ لأنهم دائمًا مُوغِلون في الصحراء، ويستعمل ابن خلدون هذا المصطلح أيضًا للقبائل عندما تتحضر، ولكن صبغة البداوة تبقى غالبة عليها؛ فهي تختار المدن المناسبة لطبيعتها الأولى، ولا تهتم بالماء والموقع، وتبقى طريقة البناء والتعامل مع المدينة هي هي؛ فهم يحتقرون المهن والصنائع، ولا يشجعون أصحابها بإعطائهم ما يستحقون، ولا يهتمون بالمشروعات الكبيرة التي تؤسِّس للمستقبل؛ فطابع البداوة لا يزال مؤثِّرًا فيهم، وكذلك يستعملها للذين ينتقلون فجأة من البداوة إلى الحضارة ولا يستطيعون إقامة التوازن المطلوب[33].

ثم ينتهي الباحث في تحليله إلى أن استعمال ابن خلدون لكلمة (العرب) يشوبه شيءٌ من الغموض، وشيء من التشاؤم، ولقد عاش في فترة طويلة مع القبائل العربية والبربرية، ودرس طباعَهم وطريقة تفكيرهم، وشاهد الغارات المتكررة من عرب بني هلال وسليم على الدول التي ما أن تنشأ حتى تزول؛ فكان هذا سببًا لأن يفكر طويلاً في هذه الظاهرة: لماذا يعيش هؤلاء على السلب والنهب؟ وإذا استقروا كيف يتصرفون؟ ومع أن تحليلاته صحيحةٌ في الجملة، إلا أنه في قضية خطيرة مثل هذه كان الواجب أن يوضح مقصده، ويزيل الالتباس بين كلمتي البدو والعرب، ولعل طريقته في التعميم - إذا اقتنع بقضية ما - هي التي أدَّتْ به إلى هذا الغموض[34].

والحقيقة أن تحليل الأستاذ محمد العبدة لمصطلح العرب في استعماله الخلدوني يندرج مع تلك التحليلات التي ترى في الاستعمال الخلدوني لهذا المصطلح غموضًا ولَبْسًا، بيد أن التحليل العام للأستاذ العبدة لا يندرج مع تلك التحليلات التي ترى أن للعرب كيانًا ذاتيًّا مستقلاًّ عن الإسلام، وبالتالي فرؤيته (للعرب) كقوم تقف في خندق التحليلات المنتمية للرؤية الموضوعية الإسلامية.

أما صديقنا الكبير الدكتور عماد الدين خليل - وهو كاتب إسلامي ثقة - فقد رفض رأي ابن خلدون في العرب، ورأى هذا الرأي مجرد رد فعل نفسي وفكري إزاء ما أحدثته بعض قبائلهم في الشمال الإفريقي، مضافًا إلى ذلك رغبة خلدونية درج عليها "من التعميم الذي مارسه في أكثر من مكان، والذي يقود بالضرورة إلى مد المقولات أو النظريات أو القوانين إلى أكبر مدى زماني أو مكاني؛ لكي يعطيها صفة الشمولية؛ ويجعلها أكثر ثقلاً وأهمية في حركة التاريخ على حساب الوقائع التاريخية نفسها.

ومن ثم؛ فإنه إذا كانت بعض القبائل العربية في فترة ما من فترات تاريخها لا تقدر على التغلب إلا على البسائط، عُمِّمت في مقدمة ابن خلدون وأصبحت: (إن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط)[35]، وإذا كانت بعض الجماعات العربية لدى تغلبها على بعض الأوطان أسرع إليها الخراب، عُمِّم ذلك في مقدمة ابن خلدون وأصبح: (إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب)"[36]!

والحقيقة أنني أختلف مع الاتجاه القومي الذي يمثله ساطع الحصري وتلامذته في عملية التأويل، ورفض مقولة الأعراب أو البدو على رأي ابن خلدون الواضح جدًّا، كذلك فإنني أختلف - أيضًا - مع آراء أساتذتنا الأفاضل الذين يذهبون هذا المذهب، ومنهم الدكتور عبدالواحد وافي، والدكتور مصطفى الشكعة، وأختلف كذلك مع صديقي الدكتور عماد الدين خليل في تحليله واستنتاجه الذي "عممه" على ابن خلدون في أحكامه، وإذا كنت كذلك لا أوافق طه حسين وعبدالله عنان في تحليلاتهما، إلا أنني أرى أن ابن خلدون لم يكنْ من السذاجة بحيث يسوق هذه الفصولَ الكثيرة الواضحة، وهو يعني شريحة ضئيلة من العرب، وهي شريحة البدو بعد أن كان العمران قد استبحر، ونشأت الحواضر الإسلامية والعربية الكبرى، وظهرت الجامعات والجوامع العظمى، كما أن الأمر لم يكن مجرد إشكالات في الأسلوب أو المصطلحات أدى إلى "هذا اللبس في كلمة (عرب)، فوقعت أخطاء عظيمة في فهم موقف ابن خلدون من العرب، حتى لقد ظُنت به الظنون"، كما يرى الأستاذ الدكتور عبدالرحمن مرحبا[37].

فابن خلدون كان يعي ما يقول، وهو يقصد الشعب العربي بإطلاق، وعندما يريد ابن خلدون أن يستثنيَ، فإنه يعي أيضًا ما يقوله، ويقدم استثناءه واضحًا، فيرى عبر دراسة ذكية شاملة للتاريخ العربي وللإنسان العربي جبلة وتاريخًا اجتماعيًّا وسياسيًّا - أن هذا الإنسانَ لا يصلح بغير نبيٍّ، وأن تاريخه ينقسم قسمين واضحين، لا لَبْسَ فيهما: القسم الذي ارتبط فيه هذا الإنسانُ العربي بالنبوة وبصبغة دينية، وهم في هذا القسم ليسوا مجرد بشر، وصنَّاع الحضارة، وساسة الملك، والقسم الثاني - وهو الأغلب - حين ينفصل العرب عن النبوة وعن الدين وعن الصِّبغة الدينية، إنهم ينحدرون فورًا من مستوى الملائكية والإنسانية العالية، ليس إلى مستوى العقل أو العمل وَفْق المصلحة الدنيوية أو قوانين الاجتماع الإنساني، بل إلى مستوى البداوة والانحطاط؛ حيث يكونون أقرب إلى "الحيوانية"، يقاتل الواحد منهم أخاه، ويخون الواحد منهم وطنَه، وتدور بينهم حروب على ناقةٍ أربعين سنة، ويتباهون بأيامها، وينسَون الأخطار المحدقة بهم من أعداء دينهم ووطنهم، فيتقاتلون على حدود وهمية صنعها لهم أعداؤهم، ويتسمَّوْن بأرفع الأسماء.

ترى هل ينتظر من رجل مثل ابن خلدون أن يتغافل عن قصة العرب في الأندلس، وكيف دارت الحروب الطاحنة في عصر الولاة بعد الفتح بسنوات قليلة لمدة أربعين سنة (93 - 138هـ) صراعًا على الحكم بين القحطانيين والعدنانيين، أو الشاميين والحجازيين، وقد قامت ثورات متعددة في عهد عبدالرحمن الداخل لولا حزمه الشديد؟!

ومنذ منتصف القرن الثالث الهجري قامت حروب أخرى للصراع على الحكم، فيما يعرف بعصر الطوائف الأول، حتى قضى على الفتن عبدُالرحمن الناصر الذي حكم خمسين سنة.

ومع مطلع القرن الخامس الهجري دخلت الأندلس في عصر الفتنة وملوك الطوائف المعروف، الذي استمر نحو ثمانين سنة (399 - 478هـ)، وانتهى بسقوط طليطلة إلى الأبد في يد النصارى، وانقسمت الأندلس فيه إلى اثنتين وعشرين دولة، كان ابن حزم يصف حكامها بقوله: "والله لو علموا في عبادة الصلبان تمشيةً لأمورهم، لعبدوها!"، وكان الشاعر ابن شرف يتحدث عن ألقابهم قائلاً:
ألقابُ مملكةٍ في غيرِ موضعِها
كالهِرِّ يحكي انتفاخًا صَوْلةَ الأسدِ

ولم تكد دولة المرابطين البربرية توحِّدهم وتنقذهم، حتى بدؤوا يَضِيقون ذرعًا بها، فاضطرت للاستيلاء على الأندلس، وحتى في عصر غرناطة الأخير حين أصبحت الأندلس (دولة إقليم) غرناطة، ووادي آش، وما حولهما، هل سكنت الفتن بين بني الأحمر القحطانيين؟! إن تاريخ غرناطة معروف، وفيه من الشناعات ما يندى له الجبين، وقد أشرفتُ على رسالة ماجستير لطالب سعودي عنوانها: "الخلافات الأسرية بين بني نصر وأثرها في سقوط غرناطة"[38]، وهي توضِّح أن هذه الخلافات لم تنقطع قط حتى انقسمت (الدولة الإقليم) في آخر الأمر إلى دولتين، ثم انتهى أبو عبدالله يبكي مثل النساء مُلكًا لم يحفظه - كعربي خان دينَه - حِفْظَ الرجال!

فإذا ذهبْنا إلى المغرب الكبير منذ كان الوالي عبدالله بن الحبحاب يفرض الجزية على مَن أسلم من البربر، حتى فرض المظالم الأخرى، التي دفعت مسلمي المغرب إلى اعتناق (المذهب الخارجي) معارضةً للسلطة، وكان أن تأججت النزعة الخارجية، ومعها تأججت النزعة العنصرية عند البربر الذين كانوا مسالمين، والذين كان منهم ثلاثة أرباع الجيش الفاتح للأندلس؛ فانقسم المغرب مع منتصف القرن الثاني الهجري وبدايات العصر العباسي إلى أربع دول: الأغالبة في تونس، وبني رستم في تاهرت، وبني مدرار في سِجِلْماسة، والأدارسة المنشقين على العباسيين في المغرب الأقصى، وجاء الشيعة الفاطميون فاستثمروا هذا كله، ولم ينقذ المغربَ عائدًا به إلى وحدته السنية إلا المرابطون المسلمون الصادقون من قبيلة صنهاجة البربرية، الذين فتح اللهُ على يدي قائدَيْهم العظيمين يوسف بن تاشفين وأبي بكر بن عمر اللمتوني الأندلس وغرب ووسط إفريقيا.

وجاء الموحدون - البربر أيضًا - فقاموا بدورهم، وحتى عندما سقطت دولتهم، بقِي بنو مرين - وهم من البربر - يساعدون الأندلس ضد النصارى، ويطيلون ما استطاعوا عمر غرناطة التي تقاتَلَ فيها العربُ من بني نصر أو بني الأحمر القحطانيين على الحكم.

وهكذا انتهى ابن خلدون إلى مقابلة بين تاريخي المغرب والأندلس، وإلى مفاضلة بين دور البربر ودور العرب، وكيف كان همُّ العرب هو الحكمَ والاستعلاء العنصري، بينما كان همُّ البربر خدمة الإسلام ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وكانت دول البربر الجامعة المغربية البربرية (المرابطية والموحدية والمرينية) هي الظهير للأندلس، الذي كان مريضًا بسرطانٍ عضال، هو العنصرية القَبَلية، ثم القومية ضد البربر.

وفي يقيني أن نظرة ابن خلدون امتدتْ إلى التاريخ الإسلامي كلِّه حتى عصره، وأنه أبصر انحطاط العرب حين يتخلَّوْن عن الإسلام، وشعورهم بالتفوق لمحض الجنس، وإيمانهم بأحقيتهم في الحُكم حتى لو افتقدوا المؤهلات، وزهدهم في الصنائع والزراعة والعلوم؛ باعتبارها حِرَفًا تليق بعامة الشعب، وبالذين يريدون أن يرفعوا من مكانتهم الاجتماعية.

ولم ينكر ابن خلدون سموَّ العرب وعظمتَهم حين يرتبطون بالإسلام ارتباطَ عقيدة وإخلاص ودعوة، وليس ارتباط مصلحة سياسية أو اجتماعية، وابن خلدون يتحدث عن العرب في هذه المرحلة؛ مرحلة ذوبانهم في الإسلام، وتبدُّل طباعهم بالصِّبغة الدينية، فيقول:
"وإنما يصيرون إليها - أي: إلى سياسة الملك - بعد انقلاب طباعهم وتبدُّلِها بصِبغة دينية تمحو ذلك منهم، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم، وتحمِلهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض - كما ذكرناه - واعتبِرْ ذلك بدولتهم في الملة، لما شيَّد لهم الدينُ أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرًا وباطنًا، وتتابَع فيها الخلفاء - عَظُم حينئذٍ ملكُهم، وقوِيَ سلطانهم، كان رستم إذا رأى المسلمين يجتمعون للصلاة يقول: أكل عُمَرُ كبدي، يعلِّم الكلابَ الآدابَ، ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين فنسوا السياسة، ورجعوا إلى قَفْرهم"[39].

"بَعُدَ عهدهم بالسياسة لما نسوا الدين، فرجعوا إلى أصلهم من البداوة، وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غَلب على الدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد، فلا يكونُ مآلُه وغايته إلا تخريبَ ما يستولون عليه من العمران كما قدمنا، ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 247]"[40].

وهكذا كان ابن خلدون واضحًا كل الوضوح في ربطه العرب والعروبة بالإسلام صعودًا وهبوطًا؛ فهم بالصِّبغة الإسلامية أفضلُ الناس، وهم بدون الإسلام أحطُّ الناس وأذلُّهم، وأقلُّهم عقلاً وخُلقًا ورشدًا.

بل إن ابن خلدون كان واضحًا تمامًا في تفضيله البربر عليهم حين يكون الأخيرون على الصبغة الإسلامية (كالمرابطين والموحدين)، فيما يكون العرب مشغولين بذاتهم القَبَلية في صراعات على النفوذ في الحكم، ونزعات الاستعلاء المتأصلة في كثير منهم، ولم توجد أدنى شبهة في التراث الخلدوني تدل على انحياز خلدوني للعرب خارج نطاق صبغتهم الإسلامية، بل إنه كان أصرح المفكرين وأقواهم في سلب العرب الخارجين على سلطان الدين، ومع ذلك الوضوح وهذه الصراحة القوية التي تركت بصماتها في الفكر الحضاري الإسلامي، لم تعدم بعض المفكرين القوميين الذي راحوا يلفون ويدورون في سبيل إسقاط النزعة القومية العروبية غير الإسلامية على الفكر الخلدوني تمامًا، وحذو النعل بالنعل مثل تلك الحركات المادية والليبرالية التي سلكت الطريق نفسه.

وكنموذج لهؤلاء نقتبس ما يقوله الأستاذ "رضوان إبراهيم" في مقدمة كتابه: "المختار من كتاب مقدمة ابن خلدون" يقول: "وحسنة أخرى لابن خلدون هي تجميعه للعرب والعروبة بمفهومها الواسع على الصعيد الفكري النقدي، ومزاولة القومية مزاولة عملية؛ فقد مثَّل بنفسه دور "المواطن العربي" حينما جاب هذا الوطن من غربه إلى شرقه، وشغل نفسه بقضايا العرب أينما حل، وتكلم باسمهم في كل محفل، وسَفَرَ عنهم، وفاوض في شؤونهم، وقضى بينهم، واستهدف إصلاحَ جماعاتهم بما أوتي من قوة الشخصية، وحصافة الفكر، وجاه المنصب"[41].

وفي موضع آخر يتابع الكاتب إسقاطاته القومية فيقول: "كان - ابن خلدون - داعية للوحدة العربية في هذا الوقت الباكر من حياة العروبة، وقد أثبت بمجموعة أعماله إلى أي حد يمكن أن تكون الثقافة العربية وشيجة قوية بين أبناء العروبة جميعًا؛ ففي هذه الفترة التي عاشها ابن خلدون استطاع على رغم التفكك السياسي والاجتماعي أن يمنحنا الثقةَ في إمكان قيام وحدة عربية سليمة البنيان، أساسها: الفكر واللغة والأدب والجهود الثقافية النافعة المخلصة (أي: لا دين لها).

وقد أثبت - أي: ابن خلدون - في هذه الظروف العصيبة أن وحدة اللغة العربية، وما تحمل من نبضات فكرية وعاطفية وثقافية، تصلح أن تكونَ جسر الأمان الذي يعبره العرب إلى وحدتهم المتكاملة إذا تحررت الإرادة وتواءمت الخُطى.

لقد كانت العروبة هي الشعاع المضيء (!) عبر كل ما كتب ابن خلدون؛ فمن أجل العرب وقف جهوده على تسجيل تاريخهم، ورواية أمجادهم القديمة (!)؛ ليشحذ عزائم الأجيال الراهنة والمقبلة، وليدل على المعدن الأصيل الذي أنجب هذه الأمةَ، وليصور كيف كان العرب هم السوادَ من عين الخليقة، وكل الأمم من حولهم حواشٍ وأهداب[42]..".

وهذا الكلام الذي يلقيه الكاتب على عواهنه - على كل حال - يتناغم مع الأسلوب الإسقاطي غير العلمي الذي كان سائدًا في عصر المد الاشتراكي القومي في أنحاء من العالم، لكنه لا يصمد أمام البحث الموضوعي العلمي، بل على العكس لم يوجد عالِم عربي أو مسلم اتُّهم بسبه العنيف للعرب القوميين غير الإسلاميين مثل العلامة ابن خلدون، أليس هو الذي كتب فصولاً كاملة ذات عناوين حادة على النحو الذي ذكرناه[43]، اعتُبرت أكبر اللطمات الشائعة للعنصرية العربية؟ فقد وصم فيها العرب بأنهم (لا يتغلبون إلا على البسائط)، وأنهم (إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليه الخراب)، وأنهم (أبعد الأمم عن سياسة الملك)، وأنهم (أبعد الناس عن الصنائع)، وأن (حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم)، وأن العرب (لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينيةأفلا تكفي هذه النعوت الثابتة لإقناع أصحاب العقول برأي ابن خلدون في أن العرب لا يصلحون لشيء إيجابي من غير الإسلام؟ وهم من غير الإسلام أعجز عن أن يبنوا دُولاً ذات سيادة حقيقية، أو أن يصنعوا قوة حضارية مؤثرة في التاريخ؟!

أفلا تكفي هذه النعوت الواضحة جدًّا؛ لكي نضع العرب في خندقهم الصحيح، وهو الإسلام، الذي يشبه البحر بالنسبة للسمك، فلا حياة حقيقية للعرب بدونه إلا ريثما يفترسهم المفترسون، ويأكلهم الآكلون؟!

وأمَا آن لنا أن نكف عن تأويل آراء ابن خلدون الواضحة جدًّا؛ لكي نفرض عليها أن تتساوق مع نزعات بعض القوميين والعشائريين الذين يريدون إخراج العرب من بحرهم المحيط، لكي يجردوهم من وقود المشي في طريق الحضارة الصحيحة الكاملة، ولكي يدفعوهم إلى مؤخرة الناس بعد أن كانوا بالإسلام شامة الدنيا، ونموذج الإنسان الصحيح الذي يعيش لنفسه ولغيره، ويقدم حضارة إنسانية ربانية، تقيم الحق والعدل بين القوي والضعيف، والغني والفقير، والعربي والعجمي، ولا فرق بين أمريكي من رعاة البقر وعربي من أشاوس قريش إلا بالعمل الصالح والتقوى؟!

ومرة أخرى نؤكد أن النصوص الواردة حول العرب في مقدمة ابن خلدون لا تحتمل تأويلاً؛ فهم بالإسلام ساسةُ الدنيا، وأصحاب الملك العظيم، والسلطان القوي، حتى ليعترف رستم بأنهم أكلوا كبده من الغيظ؛ لتبدُّلهم العجيب حين يلتزمون بالآداب في الصلاة، مع أنهم في رأي رستم كانوا قبل الإسلام كلابًا، أما حين يفقد العرب الإسلام، فإنهم يفقدون عقولهم وضمائرهم وأخلاقهم، ويعودون إلى أصلهم من البداوة والقفار، ولنلاحظ بدقة كلمة: (أصلهم) التي يستعملها ابن خلدون، فكأن للعرب عنده (جِبِلَّة خاصة) - وهو محقٌّ في رأيه - فقد أثبت التاريخ فعلاً قبل ابن خلدون وبعده حتى يومنا هذا، الذي ما زالت الحوادث المعاصرة تلقي فيه بظلالها الكئيبة - أن للعرب (جبلة خاصة) من بين سائر البشر، ولعله لهذا السبب اختارهم اللهُ طليعة الرسالة العالمية الباقية إلى يوم القيامة؛ ليعرف الناسُ من خلال نموذجهم الفطري البدائي أثر الوحي في الحياة، ويتجلى أمام أعينهم الفرقُ العملي الحي الهائل بين الارتفاع مع الوحي والانخفاض بدونه!

فالعرب حين يصبغون بالصبغة الإسلامية يقدمون النماذج الإنسانية قلبًا وعقلاً وضميرًا وأخلاقًا، وحين يفقدون هذه الصبغة يفقدون - وبطريقة مباشرة - مؤهلاتهم للحياة، فينحدرون إلى مستوى عميق في التشرذم والتخريب لغيرهم إن استطاعوا، ولأنفسهم بالدرجة الأولى، ويَفقدون - بطريقة فذة فريدة (!) - الرؤية الصحيحة للأشياء ولأبجديات البقاء، وربما يتلهون بتدمير أنفسهم، وقبول مخططات أعدائهم بسذاجة نادرة تعكس شللاً عقليًّا مريعًا، ويتشرذمون تشرذمًا لا حدود له، بحيث يعجب الناظر للبون الشاسع بين حال هؤلاء القوم؛ حالهم حين يصبغهم الدين، وحالهم حين يفقدون هذه الصبغة!

ولقد أثبت التاريخ أن بعض الأمم قد تلجأ إلى عقلها وفكرها، فتبعث فيها كل إضاءة ممكنة، وتغذيها بكل الوقود الممكن، معتمدة عليها في إطالة عمرها، وتحقيق رخائها، والمكر لنفسها في معركة الحضارات وَفْق قواعد البقاء، وأصول التقدم والنهضة، لكن هؤلاء العرب حين يفقدون وقود الدين، يفقدون كل دم في عروقهم، وكل سيادة في أجسامهم، وكل بصرٍ في أعينهم، وكل بصيرة في قلوبهم، ويتقدمون في بسالة قومية نادرة لانتحارٍ جماعي، يُؤثِر المصلحة الخاصة على العامة، والمنفعةَ العاجلة على الآجلة، واليوم على الغد، وقد يدمر بعضُهم ثروةً تكفي قرونًا في عقود قليلة، ويفيد عدوَّه من ثروته أكثرَ مما يفيد نفسَه، ويخضع لتخطيطات عدوِّه وكأنه صديقُه، بل قد يستشيره في التخطيط لسياسة بني وطنه وقومه، رافضًا استشارة إخوانه وأرحامه وذويه!!

هؤلاء هم العرب حين يعودون إلى أصلهم القَبَلي، المصاحب لهم في كل مرحلة في التاريخ انفصلوا فيها عن صبغة الله، هكذا اكتشفهم ابن خلدون بأكبرِ عمقٍ ممكن لمؤرخ فيلسوف وسياسي فقيه استلهم التراث والحضارة الإسلاميين.

وأما عندما يَقبَلون صبغة الإسلام، فإنهم يصبحون - كما كانوا بحق، وكما يمكن أن يكونوا في مستقبل الأيام بإذن الله - ﴿ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].

ها هم العرب كما اكتشفهم ابن خلدون على حقيقتهم دون تأويل أو إسقاط أو تحريف، وسوف يبقون كذلك - شاؤوا أم أبوا - إلى غروب الحضارات ونهاية التاريخ!

ورحم الله العلامة عبدالرحمن بن خلدون، ذلك العربي المسلم العملاق، الذي استطاع أن يفهم العرب أصدق فهمٍ، واستطاع - في الوقت نفسه - أن يترجم الرؤية الإسلامية في نظرياته وأفكاره ترجمة إسلامية صادقة!


[1] مفهوم التاريخ "جزآن" نشر المركز الثقافي العربي، المغرب، 1992م.
[2] الخطاب التاريخي: دراسة لمنهجية ابن خلدون، نشر المركز الثقافي العربي، المغرب، طـ3، 1985م.
[3] دراسات عن مقدمة ابن خلدون، نشر بيروت.
[4] في علمية الفكر الخلدوني، نشر بيروت.
[5] الخلدونية - العلوم الاجتماعية وأساس الفلسفة السياسية، نشر عويدات، بيروت، طـ1، 1983م.
[6] كتبت بالفرنسية، وترجمت للعربية بواسطة محمد عبدالله عنان، نشر دار الكتاب اللبناني، بيروت القاهرة، ضمن الأعمال الكاملة، وقد فند آراءه الساذجة كثيرون، منهم الدكتور: علي عبدالواحد وافي، والدكتور مصطفى الشكعة، وغيرهما.
[7] العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، ص 13، طـ3، 1982م، دار الطليعة، بيروت.
[8] الجابري، المرجع السابق، 13.
[9] مقدمة ابن خلدون، ص 151، طبع دار العلم، بيروت.
[10] محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، ص 287.
[11] انظر: المقدمة، ص 157.
[12] د. مصطفى الشكعة، الأسس الإسلامية، ص 144، وما بعدها، طبعة 2، 1408هـ، الدار المصرية اللبنانية.
[13] الجابري، مرجع سابق، 290.
[14] الجابري، ص 288، 289.
[15] المقدمة، ص 160.
[16] الأسس الإسلامية، ص 148.
[17] المقدمة، 157.
[18] المقدمة، ص 149، طـ دار القلم بيروت.
[19] المقدمة، ص 149.
[20] المقدمة، ص 151.
[21] المقدمة، ص 151.
[22] المقدمة، ص 404.
[23] المقدمة، ص 359.
[24] المقدمة، ص 543.
[25] المقدمة، ص 149.
[26] المقدمة، ص 151.
[27] المقدمة، ص 151.
[28] الصفحة نفسها.
[29] المكان السابق.
[30] المكان السابق.
[31] المكان السابق.
[32] عبقريات ابن خلدون، ص 239، طـ عالم الكتب، القاهرة.
[33] محمد العبدة: البداوة والحضارة، نصوص من مقدمة ابن خلدون، ص 33، 42، المنتدى الإسلامي، لندن، طـ1، 1413هـ.
[34] المرجع السابق، ص 35، 36، وقضية التعميم هذه يقول بها أيضًا الدكتور عماد الدين خليل.
[35] د. عماد الدين خليل، ابن خلدون إسلاميًّا، ص 106، 107، المكتب الإسلامي، بيروت.
[36] المكان السابق.
[37] الجامع في تاريخ العلوم عند العرب، ص 493، طـ2، 1988، عويدات، بيروت.
[38] للباحث عبده محمد عواجي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض كلية العلوم الاجتماعية.
[39] المقدمة، ص 152.
[40] المكان السابق.
[41] رضوان إبراهيم: المختار من كتاب مقدمة ابن خلدون، ص 12، طبع وزارة الثقافة والإرشاد القومي، بمصر، طـ1 / 1960م.
[42] المرجع السابق، ص 20، 21.
[43] انظر مقدمة ابن خلدون، صفحات 146، 151، 404، 543، وغيرها.

تابع القراءة Résumé abuiyad

سيبقى نور الدعوة ساطعًا هازئًا بالظلام

0 التعليقات

لن يخمد صوت دعاة الإصلاح في هذه الأمة، مهما قست المحن، واشتدت الأزمات، ولسوف يقيض الله - تعالى - في كل زمان ومكان، مَن يحملون راية الدعوة، وينيرون مشاعلها، ويبذلون من أجل الحفاظ على مبادئها المُهَجَ والأرواح، غير مبالين بمصاعب الطريق، ولا عقبات المسير، سيمضون مستعلين بإيمانهم، معتزِّين بعقيدتهم، ساعين إلى غايتهم، لا تنحني لهم هامة، ولا تلين منهم قَناة، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويبلغون رسالات ربهم، يريدون وجهه، ولا يقصدون أحدًا سواه.

إنهم الفئة الظاهرة على الحق، الموعودة بالنصر والتمكين، والتسديد والفلاح؛ قال – تعالى -: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)).

وتاريخ الدعوة حافل بنماذجَ وعناوينَ من أتباع هذه الفئة وأعوانهم، جاؤوا - خلال مسيرتها - على قدر، فلفتوا الدنيا إلى نور ربها، وعدلوا ما اعوجَّ من سلوك أهلها، وأقاموا ما وَهِيَ من بنيان الفضيلة وصرح الأخلاق، وكانوا العقلَ الجديد الذي استنارت به الأمة، والرئة السليمة التي تنفست من خلالها.

وبذلك انتصر الخير في كثير من جوانب الحياة، وتنبَّهت الأمة إلى الخطر المحيط بها، والمخطط المدمر الذي أُحكم حولها، والأدوات التي أعدت لتنفيذه، ممن استغواهم الشيطان، وجذبهم بريق المال، واستذلهم وهمُ المنافعِ، فارتمَوا على الأبواب والعتبات، وقدموا دينهم، وأخلاقهم، وإرث أسلافهم قربانًا لكرسي، لا يلبث أن ينزع منهم، أو منصبٍ، عما قليل سيحول إلى غيرهم.

ولسنا بحاجة لإعمال ذهن، أو إجهاد فكر؛ لندرك كيف استطاع المخلصون من دعاة الإصلاح أن يُؤدوا واجبهم، وينصحوا لأمتهم، ويجنبوها المزالق والعثار.

نعم، لسنا بحاجة إلى شيء من ذلك، فواقعنا المعاصر خير شاهد على نجاح جهود المخلصين من الدعاة، وانتشار أفكارهم ومبادئهم، برغم قسوة الواقع حولهم، وتكالب الأعداء وتكاتفهم ضدهم، وبرغم استسلام الأمة لليل مظلم طويل، جثم فيه الاستعمار المادي والفكري على الصدور، فكمم الأفواه، وعطل الطاقات، وخلط المفاهيم، ووضع من الوسائل ما حسبه كفيلاً بدفن الأمة، ومسخ هُوِيَّتها، والقضاء عليها قضاء لا نهوض معه، ولا حياة بعده.

وكان أبرز وسائلهم المدمرة ما أوجدوه من تلك المذاهب والمدارس الفكرية المنحرفة في نشأتها، وسلوكها، وفَهْمها، وأصل عقيدتها، والتي انساق وراءها عددٌ كبير من أبناء الأمة بمختلف شرائحها وطبقاتها.

وهمْ بين ماكرٍ مضلٍّ، بصير بدرب الغَوَاية والضلال، يخطط لتقويض أركان هذا الدين، وتشويه جماله، وطمس معالمه، مندفعًا وراء أحقاد دفينة، وثارات موروثة، وبين مخدوعٍ ضعيف الفكر، قليل العلم، حائر بائر، لا يميز منكرًا من معروف.

وإنك واجدٌ بين هذين الصنفين طرازًا آخرَ، همُّه المصلحة والانتفاع، يمتطي متن كل موج؛ ليبلغ الشاطئ المقابل، حيث توزع الغنيمة، ويقسم الفيء، وما عليه بعد ذلك في أي وادٍ هلك الناس.

قدر الله غالب:
ولقد مضت سنة الله - تعالى - أن لا يذر المؤمنين على حالة تسوءُهم؛ حتى يميز الخبيث من الطيب، ثم يتولى أولياءه بالعناية والرعاية، والهداية والتسديد.

وتحققت سنة الله هذه في مطلع قرننا هذا - القرن الواحد والعشرين - فصَحَتِ الأمةُ على أصوات البررة من المخلصين من أبنائها، مبشرين ومنذرين، فجَأَها الصوتُ؛ بل أذهلها، فاستغربتْه بادئ ذي بدء، لقد بَعُد عهدُها بسماعه؛ حتى نسيته أو كادت، لكنها ما لبثت أن تيقظت منها المشاعرُ، وتنبهت الفطرة، وألقت القلوب السمعَ، فإذا الصوت صوتُها، وإذا المنادي ذاتُها، وإذا المطلب هو أمنيتها، فكيف لا تستجيب؟!

وبدأت المسيرة خلف الحادي الجديد هادئةً رتيبة، هي للضعف يومئذٍ أقرب منها للقوة، لكن الله - تعالى - شدَّ أزر الضعيف وقوَّاه، وبارك في القليل فكثره ونمَّاه، فغدت دعوة الإسلام في القرن العشرين صوتًا جديدًا، نابعًا من ضمير الأمة وعقيدتها، ارتفع حين خفتت الأصوات، وصدع بالحق عندما سكتت الألسنة، وأحيا فريضة الجهاد بعدما أُغمدت السيوف وأُلقيت النصال، وقدم البذل والتضحيات في زمن الشح والانطواء، وجدد الأمل بالعزة والنصر، وقد سئم الناس، وانعقدت القلوب على اليأس والقنوط، فليس ثمة غرابة أن تلتف الصفوة من أبناء الأمة حول باعث الأمل، ومجدد الرجاء.

ثمرة الإخلاص: 
ومضى الركب راشدًا، يُحْيي معالم الدين، ويبشر بإشراقة مستقبله، ويدعو إلى ظلال كتابه، وعدالة مبادئه.

ولم يمضِ غيرُ يسير حتى غدا للدعوة: "في الإرشاد لسان، وفي الاقتصاد يدٌ، وفي الجهاد سلاح، وفي السياسة رأي، وفي التربية والتعليم أثر، وغدا لها في كل بلد من البلدان أتباع، وفي كل قطر من الأقطار أشياع، وما يقظة الوعي العام في حواضر العالم وقراه إلا شعاع من هذه الروح، بدأ يطرح ثماره، ويؤتي أُكُلَه، وسيكون له نبأ بعد حين".

واجب أبناء الدعوة:
إنه لَتركةٌ مباركة، وإرث عظيم هذا الذي خلَّفه رجال الرعيل الأول، بعد سعي ناصب، وسهر دائم، وصبر على البلاء في ذات الله.

ولن يقوى على صونه وحفظه، إلا مَن تحلَّى بأخلاقهم، واهتدى بفعالهم، فصبر على ما صبروا، وآثر ما آثروا، وحرص أن يتم البناء على النهج القويم، والخطة المثلى، بعيدًا عن جلبة الأصوات، وبهرجة الأضواء، وإبراز الذات، فلن يثمر عمل بغير الإخلاص وحسن النية.


تابع القراءة Résumé abuiyad

النخوة التي ماتت

0 التعليقات
لم أتصور أن يأتي يوم وتصبح شيمنا وأخلاقنا كعرب أولا وكمسلمين عاجزة عن نصرة أخواننا في غزة وفلسطين أو أي مكان!!

لطالما تغنى العربي بنخوته وشيمته وفزعته لنصرة جاره أو من يستنجد به حتى وان كان لا يعرفه. وفي يومنا الحاضر ماتت تلك النخوة وتلك الشيم عن نصرة أخوة الدين والدم وهذه صرخاتهم تكاد تصم آذاننا يوميا بل كل ساعة وكل دقيقة.

ماذا دهى العرب وماذا حدث لشيمنا وأخلاقنا ونخوتنا!!؟ هل ماتت تلك النخوة بسبب تكرر مناظر الاضطهاد والذل في أخواننا في فلسطين أم قتلها حكام العرب بإذلالهم للنخوة والشيمة والفزعة في قلوب الشعوب.

من الذي يتحمل وزر ما يحدث من تخلي العربي عن أخيه العربي الذي يستنجد به في اشد حالات الاستعباد والهوان على النفس الأبية. لماذا ألجمنا آذاننا عن سماع واقع أخواننا في غزة وفلسطين بينما نسمع يوميا عن موت الكلب المدلل فلان وهروب القطة فلانة وتسرب النفط وأثره على اسماك لويزيانا، ونزول الأسهم وصعودها!!.

يا أمة العرب، هناك شعب مسجون في غزة، بعضهم قد لا يجد قوت يومه وبعضهم لا يجد الدواء ولا الكساء، وأنتم منعمون في نعم الله التي تجبى إليكم من كل مكان، ألا تشعرون أن هناك أمرا يستحق منكم الشعور بالمسؤولية تجاه إخوانكم في ارض غزة وفلسطين بصورة عامة.  يا أمة العرب التي شرفها الله بحمل رسالة  الإسلام و الأخلاق والنخوة إلى العالم ألا تشعرون أنكم مقصرون في نجدة إخوة لكم يحاربون على الهوية ويقتلون على الدين وتسفك دمائهم بلا رحمة ولا شفقة.

بالله عليكم متى ستتحرك فيكم نخوة العرب، أعندما تصفى فلسطين وغزة من كل مجاهد أم عندما يسحق كل سكان فلسطين الصالحين ولا يبقى إلا العملاء والخونة، وهل بعد رخص دم العربي في فلسطين سيكون هناك أمر اشد من ذلك!؟ فلا أظن أن دم العربي سيكون ارخص مما شاهدناه ونشاهده يوميا في أخواننا في فلسطين والعراق. أم أنكم تنتظرون حتى تجدوا اليهود في ارض المدينة المنورة يعيثون فيها فساد وتقتيلا مطالبين بخيبر أو على ضفاف نهر النيل مطالبين بأرض اليهود القديمة في مصر.

نخوة العربي التي تأبى أن ترى الظلم والذل والهوان، تتلاشى في قلوب وعقول العرب شيئا فشيئا، ويحل محلها إسقاط نفسي وهزيمة داخلية تكاد تذهب ببقايا الرجال وتكاد تجعلنا ننتظر بعثا جديد من نساء الأمة لعلهن أكثر نخوة من هؤلاء الرجال المسوخ.

حكام العرب يسمعون ويرون يوميا ما يحدث في غزة وفلسطين، أيعقل أن اردوغان التركي الشهم أكثر شعورا بالمسئولية من واحد وعشرين رئيس دولة وواحد وعشرين قائد وواحد وعشرين أمير للمؤمنين. هل يعقل أن تركيا تخرج عن بكرة أبيها تنادي بفك الحصار عن غزة والعرب نيام بين القصور والجواري والذهب والفضة.  أي نخوة هذه إذا كان  العربي متقاعس عن القيام بواجبه بينما نجد الفزعة من الأوروبيين والمسيحيين، بل ومن بعض اليهود الذين يشعرون بالخزي مما يفعله بنو جلدتهم.

وهل تبقت أي شيمة فيكم أيها العرب بعد أن رأينا كيف تخرج النساء كبارا وصغارا لركوب سفن فك الحصار بينما نحن نربي الكروش والعروش حيارى بين المنتزهات والمنتجعات. لقد أصبحت اخجل من عروبتي، بل أكاد اشعر أنها عار علي وعلى كل من يحملها.  إن واقع الشيمة العربية والنخوة مزرٍ في ظل القتل الواضح لكل نخوة العرب وشيمهم الذي تمارسه الحكومات العربية بشتى الصور والأساليب.

فتارة يمنعوننا عن التبرعات لإخواننا في غزة. وتارة يغلقون الحدود بيننا وبينهم، وأخرى يحاربون حتى التجمع السلمي من اجل نصرة إخواننا ولو بالكلمة أو المقالة أو الحديث العلني. إننا نحارب في كل مشاعرنا وكل أحاسيسنا تجاه أخواننا في غزة وقضية فلسطين بكل أساليب القهر والذل ، حتى بات ذلنا في بلادنا العربية اشد من واقع فلسطين وواقع غزة.  لقد فتحت السجون لكل من ينوى أن يناصر إخوانه في فلسطين أو غزة. وأغلقت الحدود والخنادق الأرضية وبنيت السدود الفولاذية والأسمنتية إمعانا في قتل وريد الحياة الوحيد إرضاء لليهود وإذلالا للشعوب العربية التي ترى أن من واجب دينها عليها أن تنصر إخوتنا في غزة أو في فلسطين.

لقد أصبح من يجمع التبرعات لنصرة غزة وأهلها مجرما وأصبح من ينوي الجهاد هناك مخترقا للقانون وأصبح من يعين على إزالة الظلم عن أهل غزة إرهابي، وأصبح الشعور بوجوب نصرة المظلوم جرم يحاسب عليه صاحبه وأصبحنا تدريجيا بين خوف وفزع من الجلادين والسجون والأنظمة.

إن الموت ارحم مما يفعل بنا اليوم، بل إن موت الإنسان أرحم من أن يرى إخوة له يموتون يوميا وهو عاجز أو تم تعجيزه قسرا عن نصرة أخوانه وأهله من حملة هذا الدين.

يا حكام العرب بدلا من أن نموت في سجونكم وبين ايدي جلاديكم، دعونا نموت في فلسطين، واتركوا دمائنا تسيل هناك أشرف لنا ولكم....فسحقا لنخوتكم التي ماتت وسحقا لشيمكم التي اندثرت.


تابع القراءة Résumé abuiyad

بظلامه أقبل علينا التناقض

0 التعليقات
التناقضُ بين الأقوالِ والأفعال مسألةٌ مؤرقة فعلاً، يلاحظ المرء ذلك في المجتمعِ الذي يحتضنه، لم يسلم من هذا الوباءِ الصغارُ، فشملهم وشمل الكبارَ، وحتى الشيوخ ومَن قاربوا الوفاة، هناك فئام من النَّاسِ أقوالهم وأفعالهم سواء، بل بعضُهم لا يقول حتى يفعل، وآخرون منهم يفعلون فقط، وهؤلاء نفرٌ قليلون.

تضاربُ الأقوالِ والأفعال أفقدَ النَّاسَ الثقة في بعضِهم وفي المؤسسات، فأضحى الأصل هو الكذب، والفرع هو الصدق، والصدوق في مجتمعِ الكذابين غريبٌ شاذ.

تلجأ طوائفُ من الخرَّاصين في زماننا إلى لعبةِ الألفاظ واللف والدوران، وهناك مدارس غير رسمية وغير مصرَّح بها تعلِّمُ النَّاسَ أساليبَ المراوغة الكلامية، ليتملَّصوا من الواجباتِ والحقوق التي ناضلوا ليدافعوا عنها، وينجحون في مراوغةِ القوم منطلقين إلى المرمى للتسجيل، وسجلوا أهدافًا كبيرة ومشاريعَ عظيمة، ولما طال الأمَدُ بالقومِ أدركوا اللعبةَ وفهموا الخطة، فضربوا صفحًا عن الأقوال، وانطلقوا مهرولين ناظرين إلى الأعمال، فلم يجدوا إلاَّ الهباء المنثور وأجزاء من القشور، وبقايا ما التهمه الذِّئاب، وقنينة اختلف النَّاسُ فيها، وكان بأسهم بينهم شديدًا.

ومما أسفرت عنه أساليبُ اللَّف والدوران فقدان الثقة، ومن الصعبِ استرجاعها وبثها من جديد، وأنت تعرف أنَّ إنباتها يستغرقُ من الوقت كذا وكذا.

لا يُنْظر في ظلِّ سيادة فقدان الثقة إلى الأعمالِ المفيدة والإنجازات الجليلة نظرةَ تقديرٍ وتثمين، بل نظرة تكذيبٍ وتأويل فاسد.

حاول المهتمون محاولاتِ إرجاعِ المياه إلى مجاريها، فباءت محاولاتُهم بالفشلِ الذريع؛ لأنَّ الميدانَ لم يجسد الأقوال، ولأنَّ الثقةَ فقدت، ولأنَّ الأخلاقَ فسدت.

مما أراه أسبابًا للتناقضِ بين الأقوال والأفعال:
الأقوال نظرية غير ملموسة، والأفعال مادية ملموسة، فكانت صعبة.
الأقوال تندفعُ من الفمِ عذبةً سهلة، والأفعالُ تحتاجُ لجهدٍ وقوة.
الأقوال تشبه التنظيرات والتخطيطات، والأفعالُ تنفيذات وتطبيقات.
الأقوال من النَّاحيةِ الجغرافية منخفضات، والأفعال مرتفعات، وهبوطُ المنخفضاتِ سهل، وصعود المرتفعات عسير وشاق.

أزمةُ تناقضِ الأقوال والأفعال ليست هينة، وعواقبها وخيمة فاسدة، فالمبادرة المبادرة إلى إصلاحِ ما فسد، لإرجاعِ الثقة، ليس المهم التصريح في الأوراقِ واللقاءات ورفعِ الشعارات أو البكاء على الماضي وتقويم الغبار، فهذا كلُّه لن يكرس إلا للموجود والسائد، ولن يزيدَ طين الأزمةِ إلا بلة وعلة وأدواء، ووقتئذ يعسر الدواء.


تابع القراءة Résumé abuiyad

حراء شمس متجددة

0 التعليقات

 ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1].
 
مع كل صباح تَزحَف أشعة الشمس ببُطءٍ وهدوء مبدِّدةً بَقايا الليل المظلم، مُعلنة عن مَولد نهار جديد.

وأكثر الناس لا يَملكون الوقت، وليس لديهم الباعث ليُراقبوا زحْف أشعة الشمس، وهي تكتسح رُكام السحب وجبال الغيوم؛ لأنهم يعلمون أن الشمس لا بدَّ أن تَنتصر، وأن النور لا محالة قادم، ولأنهم - كذلك - ألِفوا تداولَ الليل والنهار؛ خضوعًا للسنة الكونية في كل يوم.

وهكذا تمضي سنة التداول في الزمان - دون فعْلٍ إنساني - فيعقب الليل النهار، ويعقب النهار الليل، وهكذا الأمر في الظلام والنور، والشتاء والربيع.

وقد يطول ليلُ الشتاء، لكن مجيء الربيع حتميةٌ كونية، وقد تسود جحافل الظلام في غياب "النور"، لكنَّ سنة الله الكونية لا تتخلف، فسَرعان ما يعود "النور" إلى الظهور!

وهنا يظهر الفيصل بين السُّنتين "الطبيعية الكونية" و"الاجتماعية الحضارية"، فعلى الرغم من وحدة القانون، فإن الفعل الإنساني له دورُه المؤثِّر في سُنة التداول الاجتماعية الحضارية.

الربيع الحضاري:
ففي حالة وجود الفعالية الإنسانية، والالتحام الإنساني الواعي بالسنة الطبيعية، والالتزام بثوابت الوحي وتوجيهاته العليا، في هذه الحالة يَنجح الإنسان في إطالة فترة "الربيع الحضاري"، ربيع الازدهار والعطاء، وتمتدُّ بالتالي مساحةُ النور عبْر الخريطة الإنسانية.

وعلى العكس، فعندما تُسيطر السكونية السلبية، ويُصبح الإنسان مجرد جزءٍ من الزمان، يمتد الشتاء بقَسوته وظلامه، وتنكمِش مساحة النور، وتَذبُل سريعًا أزهار الربيع!

وهنا يتألق دور المؤمنين الفاعلين من خريجي مدرسة "حراء"، التي هبَطت عليها أشعة شمس القرآن الأولى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1].

إنهم مطالَبون بالتغيير والتعمير والحركة باسم الله، ومطالَبون برفْض الجمود الذي يَجعلهم كأنهم بعض الزمان وخارج الحضارة والتاريخ، ينتظرون - وهم قاعدون عاجزون - دورة السُّنة الطبيعية في التداول، دون أن يعملوا على تحقيق التكامل بينها وبين السنة الاجتماعية: سُنة التغيير الداخلي انطلاقًا للتغيير الخارجي؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].

إنهم - لو كانوا مؤمنين حقًّا - أسمى من أن يصبحوا جزءًا من الصيرورة والزمان، إنهم في حقيقتهم محرِّكو قطار التاريخ الحضاري، وقادة "النور".

وهم القادرون قبل غيرهم على حمْل مشاعل الوحي وأضواء العقل، وبالتالي هم الذين يستحقُّون "الاصطفاء"؛ ليحقِّقوا "الشهادة" على الناس، ويبْلغوا مرتبة "العباد الصالحين الوارثين للأرض"؛ ﴿ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].

وحتى لو عثَرت بهم أحجار عبر مسيرتهم في التاريخ، فهم - مع ذلك - المؤهَّلون للأَوْبة والبعث والإقلاع، مهما تطُل غيبتُهم عن مسرح الحضارة والتاريخ.

إن لهم معالِمَ يهتدون بها، ولهم ثوابتَ من الوحي - لا يأتيها الباطل - تأخذ بأيديهم إلى التي هي أقوم.

لقد غاب المسلمون حضاريًّا منذ عدة قرون، فتقدم الأوربيون - في الفراغ - وقادوا الدنيا بالعقل وحده، ونظروا بعين المسيح الدجال، وكالوا بمكاييله، وقاسوا الأمور بمعاييره المزدوجة، وزعموا أنَّ لهم "جنَّةً" هي حضارتهم المادية الشَّيئية، ولهم "جهنم" اخترعوا لها صورًا من الدمار!

وقد قدَّموا - وهذا لا يُنكر - خدمات علمية، لكنهم أتعسوا الإنسان بالدنيوية والعنصرية والحروب لأتفه الأسباب، وباختراع قوانين الصدام ونظرياته المتهافتة (!)، وتُوشِك البشرية التي حفروا لها القبور - حسْب مقولة "رجاء جارودي" - أن تنْتحر انتحارًا جماعيًّا عولميًّا، وتَفقد ذاتها ودنياها وآخرتها.

فلا بدَّ أن يستيقظ المسلمون، وأن ينفُضوا الغبار عن أجسادهم وعقولهم، وأن يخرجوا من الكهف، متلطِّفين في خروجهم، حُداةً على آمال الإنسانية، وحُماةً لها من الانتحار والدمار، بالحكمة والقدوة والحوار.

ولا بدَّ أن يعود معنى الصلة بين السماء والأرض، ذلك الذي تألق في "حراء" ذات يوم من سنة 610م، معلنًا عن ميلاد جديد للإنسانية، فما أحوج إنسانيَّتنا المعاصرة أن تُولَد من جديد! وأن تقرأ من جديد ﴿ بِاسْمِ رَبِك ﴾، لا باسم المادة أو الصراع أو العلم الذي لا ينفع، والذي لا يخشى علماؤه الله!

لقد عاش المسلمون أكثر من عشرة قرون منذ هبَطت عليهم ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، سادة الحضارة - كما يقول أكبر مؤرخي القرن العشرين "ول ديورانت" - وبهم بدأت الحضارةُ دورةً إنسانية جديدة تخلَّصت فيها من ظلامٍ استمرَّ عشرة قرون، هي "القرون الوسطى" كما يقولون، بل تخلصت من ظلام هيمَن على الحضارة الإنسانية عشرات القرون قبل ظهور العصر القرآني، في ظل حضارات وثنيَّة وأسطورية واستعلائية، لم تَقدر الله حق قدره إلا في القليل النادر من الزمان، بينما اخترعت مئات الأصنام والأوثان، وخضَعت لها خضوع العبيد فاقدي الوعي والإحساس.

وعندما نزلت: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1] في حراء، كانت شمسًا جديدةً تُطِلُّ على الكون، جامعةً في نسيجٍ واحد بين قراءة الوحي والعقل والكون، فتحَقَّق لأول مرة في تاريخ الحضارات رسم خريطةٍ تتناغم فيها الربَّانية والإنسانية على امتداد إشعاعات الوعي الإنساني.

وما كان ممكنًا قبل هذا الحدث الفارق أن تكون هناك حضارة إنسانية تتصل فيها الأرض بالسماء، من خلال وسائل تتحدَّد فيها العلاقة الواضحة بين "الله" المعبود الخالق وبين "الإنسان" العابد المخلوق.

لقد كان "الكون" قبل هذا الحدث الذي وقَع في "حراء" معبودًا يخشاه الإنسان، ويتقرَّب إليه بشتَّى القرابين ووسائل التعبير الدالة على الخضوع والخوف والعبادة، فجاء "العصر القرآني" يضع الكون في مكانه الصحيح كونًا مسخَّرًا للإنسان؛ ليستخدمه الإنسان لتحقيق العبودية لله، وتعمير الأرض باسم الله، ولتسبيح الله، وبالتالي أصبح الكون الذي كان في الوعي الإنساني الوثني معبودًا "عابدًا"، خاضعًا للبحث والاكتشاف والتسخير، ورجع الكون في الوعي الإنساني إلى حجمه الصحيح؛ مفعولاً به، وليس فاعلاً، مطبعةً لا طابعًا، نقْشًا لا نقَّاشًا، متحفًا ومعرضًا لإظهار تجلِّيات الخالق العظيم الذي استخلف الإنسان وعلَّمه الأسماء كلها، وزوَّده بالوحي والعقل والإرادة.

الإسلام والتعامل مع الكون:
وما كان ممكنًا قبل هذا التحول الذي قدَّمه الإسلام في التعامل مع الكون، أن تكون هناك حضارة إسلامية تمثل منعطفًا جديدًا في تاريخ التمدُّن الإنساني، وما كان ممكنًا - كذلك - أن تكون هناك حضارة أوروبية أو رُقيٌّ إنساني، بينما الكون معطَّل عن التسخير، يحتلُّ مكانةً "مقلوبة"، فتتعطَّل مع وضعه المقلوب ملكات الإنسان، وبالتالي لا يجد الإنسان عالم "الآفاق" الذي يُحقِّق من خلاله شروط الاستخلاف.

لقد نجح المسلمون "السلف" خلال مدة تزيد على عشرة قرون - كما ذكرنا - في أن يقدموا حضارةً معتدلة الموازين والقيم، تتكامل فيها ثوابت الوحي مع حركة العقل مع الرؤية الرشيدة للكون والحياة.

فلما اختلَّ الميزان في أيديهم وفقَدوا مؤهلات القيادة الحضارية، وخَلَفَ من بعدهم خلفٌ أضاعوا الصلاة واتَّبعوا الشهوات، وأهملوا العلم والعمل، وفقه السنة الكونية والاجتماعية - أخذ منهم الأوربيون القيادة، فتحرَّكوا بالعقل وحده، مؤلِّهين "المصلحة" و"المادية" في إطار الفرد والمذهب الفردي طورًا، وفي إطار الجماعة والمذهب الجماعي طورًا آخر، وكانت الآخرةُ والروحُ والجوانبُ الدنيوية بعيدةً كل البعد عن التنظير والتخطيط والتطبيق هنا وهناك، فعادت سفينة البشرية تَجنَح إلى الغرق من جديد، وسيطرت "القوة"، ومع القوة "الظلم"، ومع الظلم "ازدواج المعايير"، ومع اختلال الموازين سيطرت "العنْصرية" و"الأنانية"، فارتفَعت بالتالي رايات الصدام والشقاء، وانخَفضت رايات التعارف والسعادة.

وهنا - وعند هذا المَحاط - لم يَبق إلا أن يعود المسلمون إلى القيادة من جديد، متجاوزين عصر الانحطاط، دخولاً في دورة حضارية أخرى، ووصولاً بعون الله إلى عصر الشهادة على الناس، والخيرية، والقيادة الحضارية للإنسانية!

وكما خرج "النور" من "حراء" عندما هبط الوحي، معلنًا بداية العصر القرآني، "عصر تكامل القراءات السماوية والكونية والعقلية"، كذلك ينبغي أن يتمثل المسلمون في دورتهم الحضارية الجديدة معاني البعث القائم على القراءات المتناغمة المتكاملة السابقة، بلا تعارضٍ أو خللٍ!

شمس القرآن:
ومن هنا ينبغي النظر إلى شمس القرآن بعين جديدة "أصيلةٍ معاصرةٍ"، لا تُهمل الماضي ولا تتجاهل المستقبل، وفي هذا المقام قد نجد بين أيدينا عددًا رائعًا من الرُّؤى التي لا يمكن الغضُّ من قيمتها، ولا الانتقاص من قدر أصحابها، هؤلاء الأعلام الذين حاوَلوا بعْث الأمة من خلال الحياة في ظلال القرآن والحياة في فقه السيرة.

بيْد أننا نرى أن لـ"رسائل النور"؛ لبديع الزمان سعيد النورسي - ريادةً خاصة، كما نرى للمشروع الفكري السائر على درب "النورسي"، الذي يقدمه بآلياتٍ معاصرة عملاقة الداعية المصلح الشيخ "فتح الله كولن"، ممثلاً في "النور الخالد"، وفي نحو خمسين كتابًا معه - ريادةً خاصة كذلك.

والمشروعان لا ينفصلان، وكلاهما قدَّم ما يستطيع في ظل الظروف المتاحة، وهما يصبَّان في خندق واحد، ويتَّجهان إلى غاية واحدة.

إنها غاية إنقاذ الإنسانية والمسلمين، من خلال "القرآن" ومن خلال تطبيق النبي الكريم للقرآن على الواقع، وهو النبي الكريم الذي كان "قرآنًا" يمشي على الأرض، والذي كان "خلقه القرآن" - قولاً، وفعلاً، وتقريرًا - بعيدًا عن "المثالية" العاجزة عن التطبيق، والتي حلَم بها الفلاسفة الطوباويون، وأيضًا ارتفاعًا بمستوى "الواقعية" التي يَهبِط بها إلى "الحيوانية" الواقعيون.

لقد قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - واقعيةً ترتفع إلى قريب من شمس "النور الخالد"، شمس المثالية الإنسانية التي لا يمكن أن يصنعها إلا كتاب الله - فكرًا، وتربيةً، وتنظيرًا - وسيرة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - فعلاً، وحركةً، وتطبيقًا.

وبالفكر القرآني والتطبيق النبوي تتحقق الحضارة الإنسانية التي انطلقت من "حراء"، بعد أن هبط بها جبريل - عليه السلام - من السماء؛ ﴿ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35].

وعلى المسلمين استئنافها اليوم مُستعينين بالله، وما ذلك على الله ببعيد!


تابع القراءة Résumé abuiyad

شعاع خافت

0 التعليقات

أغمضت عيني في وجه الشمس، إلا ذاك الشق البسيط الذي تراءى لي منه شعاعٌ بسيط من النور، بدا هذا الشعاع كسلسلةٍ من الخيوط المتسقة معاً أنارت عتمة عينيّ السوداوين...

كيف لنا أن نغمض أعيننا في وجه الشمس؟

أوَليست هي مصدر الحياة وأساس الوجود على هذه البسيطة!؟


كيف لنا أن نمنع ذلك النور المتّقد في هذه الدنيا مِن أن يضيء ظلمة هذه العيون الذابلة التي لا تنفكُّ تغمض في وجه كل شعاعِ خيْرٍ أو حتى بصيرة؟.. في وجه كل شعاعِ علمٍ أو حتى شعاع حياة؟


حتى ذلك الشعاع البسيط من الأمل الذي نوهم أنفسنا أنه بقي لنا من مجدٍ ساد قروناً عديدة.. مجدٌ لسنا نحن من صنعَه، مجدٌ زائف هو الآن كما يبدو لي نفخر به.. وأي فخر!


أتفخر النحلة بذلك الورد ورحيقه؟ أم تفخر بعسلها الصافي ذاك؟...


ليتنا كنا كتلك النحلة المحلقة بعيداً، تجمع رحيقَ الأزهار لتصنع ما يطيب من عسلها...


أمّا نحن..

فما نحن إلاّ من يحاول اصطياد تلك النحلة ليقتلها..


أو ليجعل منها دبوراً شرساً قاتلاً...؟؟


تابع القراءة Résumé abuiyad

وصرخ شعاع الفجر

0 التعليقات


خيَّم الصمت الأزلي طويلاً في جوف الليل على تلك الصحراء الموحِشة التي تمتدُّ إلى ما لا نهاية من بعيد، يقطعها شريط السكة الحديدية ليمضي معها نحو المجهول..

فجأة، قطع حبال الصمت صوت خطوات واهنة لفأر جبَليٍّ صغير، بدا وكأنما برَز من العدم، كما لو أن الصحراء لم تَحتمِل حيًّا في جوفها فلفظته خارجها، وفي سرعة أخذ الفأر الجبلي يتنقَّل هنا وهناك باحثًا عن أي شيء يصلح للأكل، وفي هدوء مشوب بالحذر اقترب الفأر من القضبان الحديدية واعتلى إحداها وأخذ يَستكشفه في اهتمام قبل أن تطرح خلايا مخه الرمادية السؤال على نفسها:
ما هذا؟!

إنه شيء جديد لم يمرَّ عليه من قبل، ثم راح يتحسَّسُه في خوف، وبعد فترة كان قد وازن نفسه فوق القضيب الحديدي وأخذ يَجري فوقه في سرور، وطغت فرحة اللهو على إحساسه بالجوع، لكنه توقف فجأة وأخذ يُنصت والتقط سمعُه الحاد دويًّا بعيدًا كآلاف المطارق تهوي فوق القضبان، وارتفع بناظريه فرأى الموت في قطار يطوي القضبان خلفه وسلسل الخوف أقدامَ الفأر لبُرهة رأى الجحيم خلالها منقوشًا فوق قسماته الحديدية، نفض الفأر عن نفسه الخوف وولى ظهره للقطار وأخذ يركض فوق القضيب الحديدي في ذعر وهو ينظر خلفه فيرى الموت يلاحقه، وفي لحظة عبَرت عجلات القطار على أشلاء فأر جبَلي.

حدث كل هذا دون أن يشعر أحد من ركاب القطار بتلك الاهتزازة البسيطة الناتجة عن عبور العجلات الحديدية على أشلاء فأر جبَلي، تلك الاهتزازة التي امتزجَت باهتزازات القِطار المستمرة والتي لا يَشعر بها رُكاب الدرجة الأولى الذين يَنعمون بالنوم الهادئ ونسمات المكيف وأنغام الموسيقا، لم يكن يشعر بها حقًّا سوى ركاب عربات الدرجة الثالثة التي يصل عددها إلى أكثر من نصف عربات القطار الخمسة عشر، وفي إحدى تلك العربات التي تتشابه مع عربات نقل الحيوانات أكثر منها مع عربات نقل البشر داخل تلك العربة التي لا يوجد بها موطئ لقدم؛ حيث تزخر بالرجال والنساء والشيوخ والغلمان متلاحمين ككتل بشرية تتمايل مع كل انحناءة للقطار.

علا صوت من بين الجالسين يُحدِّث رجلاً بجلباب أسود يُشعِل لفافة تبغ من نوع رخيص:
لو سمحت أطفئ السيجارة؛ هناك حامل تجلس معنا.

كان الصوت لرجل يناهز الخمسين يجلس على أحد المقاعد ويده تُربِّت على كتف زوجته وهي سيدة في حوالي الأربعين، يبدو من ذلك البروز الواضح في جسدها أنها في انتظار حادث سعيد، ثم أسند الرجل رأسه فوق المقعد المتهدِّل الأجزاء، وقال محادثًا زوجته بصوت لم يتجاوز أعماقه:
أعلم يا حبيبتي أنك خائفة؛ لهذا أصررتِ على أن تلدي عند أهلك، إنني أشعر بكِ لم أكن أريد أطفالاً، كل ما أردته أن أقضي أيامي الباقية إلى جوارك.

ونظر إليها فوجَدها مُغمِضة العينين، فقال:
يبدو أنها مُتعبة جدًّا، حمدًا لله أنها قد نامت.

لكنها لم تكن نائمة، كانت تُحاول السيطرة على مشاعرها، تُحاول أن تكبِّل ذلك الخوف الذي يَكتنفها، وأخذت تتبَع نصيحة جارتها وتفكر في شيء آخر، فقالت لزوجها بصوت لم يبلغ فاهَا:
أعلم أنك تحبني، وأنا أيضًا أحبك؛ لهذا أريد أن أسعدك، لقد كنت أرى نظرات الشوق الحبيسة في عينيك كلما شاهدت طِفلاً صغيرًا، أتحسبني لم أكن أشعُر بك كل ليلة وأنت تتسلل من الفراش بعد أن أنام وتخرج إلى الردهة لتُفرغ كبت وانفعالات اليوم بأكمله، لقد كنت أراك من خلف الباب وأنت تتطلع إلى صور الأطفال في المجلات وعيناك تزرفان الدمع، إنني أفعل هذا من أجلك، صدِّقني فقط من أجلك أنت.

ثم أحسَّت بدخان تبغ يمتزج بأنفاسها فسعلت، ثم سمعت صوت زوجها يتشاجر مع الرجل ذي الجلباب الأسود لتعلو أصواتهما للحظات على ضجيج القطار ثم تتحوَّل إلى همهمات ساخطة، تنتهي بإلقاء الرجل ذي الجلباب الأسود للسيجارة من النافذة قبل أن يُغمِض عينيه محاولاً الاستسلام للنوم؛ للتغلُّب على التوتر الواضح على ملامحه، لكنه وللمرة الثالثة يفتح عينيه في ضيق ويمدُّ يده خلال جلبابه الأسود فيخرج ورقه مطوية فيفضها ويقرأ محتوياتها غير مُصدِّق ما بها:
"احضر حالاً، والدك قد توفي، سنقيم الجنازة فور حضورك، احضر بأقصى سرعة... أخوك"

ومن عينيه تساقطت قطرات دمع قليلة لتجري على وجنتَيه قبل أن تستقر فوق شاربه الكث، وفي رأسه تزاحمت الأفكارُ، فرأى بعين الخيال أخاه يسير أمام الجنازة دون أن تذرف عيناه دمعة واحدة، سيسير بوجهه الحاد وعينيه الصارمتين وشاربه المدبَّب، سيسير كما سار طوال عمره ورأى نفسه خلف الجنازة يمزقه الحزن على أبيه، سيَسير مترنِّحًا متهالك القدمين، الآن من له بعد أبيه؟ مَن سيحميه من بطش أخيه؟ إنه يعلم أنه لن يتجرأ على مواجهتِه وسيَضيع حقه، أخرَجه من شروده صوت الكُمسري قائلاً:
تذاكر.

أدخلَ الورقة في طيات الجلباب، وأخرج التذكرة وناوَلَها للكمسري الذي قطعها نصفين وأعادها له ثانيه قبل أن يتحرَّك إلى المقعد الذي أمامه ويردِّد كلمته الوحيدة:
تذاكر.
قلَّبت الفتاة الجالسة على المقعد في حقيبتها بتوتُّر ثم أخرجت منها "كارنيه" اشتراك السكة الحديدية، تناول الكمسري الكارنيه منها ثم نظر إليها وبدا وكأنما سيقول شيئًا غير أنه صمت، ونظر في وجهِها قليلاً ثم ابتسم وأعاد الكارنيه لها وهو يتحرَّك من أمامها إلى باقي الركاب مُردِّدًا كلمته التقليدية، وما أن تحرَّك حتى زفرت في ارتياح وقالت مُحدِّثة نفسها وهي تعيد الكارنيه إلى حقيبتها:
الحمد لله، لم يلاحظ أن الاشتراك قد انتهى، لا أدري ماذا كنت سأفعل لو طالبني بثمن التذكرة فلم يتبقَّ معي مال.

ثم احتضنت حقيبتها في سعادة وأكملت:
إن أختي الصغيرة سوف تطير فرحًا عندما ترى الفستان الجديد الذي اشتريتُه من أجلها لترتديه في العيد.

وعلا وجهَها طيفُ كآبة وهي تقول:
لا زلتُ أذكر كيف ظلت تبكي طوال أيام العيد الماضي؛ لأن أبي لم يستطع أن يشتري لها فستانًا جديدًا، مسكين يا أبي إلى متي ستتحمَّل؟ تكفيك نفقات إخوتي الخمسة في الدراسة.

ثم كسا وجهَها شبح ابتسامة وهي تقول:
الحمد لله أنني استطعت أن أجد عملاً في ذلك المصنع المقابل لمسكني، صحيح أنه عمل شاق إلا أنه سيُساعدني على تحمُّل نفقاتي دون أن أثقل على أبي.

وانتزعَها من تأملاتها بكاءُ طفلٍ صغير يستقرُّ على ذراع أمه الواقفة بجوار مقعدها، أرادت أن تقف لتجلسها مكانها إلا أنها وقبل أن تتحرَّك كان الشاب الجالس على المقعَد المواجه لها واقفًا ليُجلِس المرأةَ على مقعدِه، ولأول مرة تنتبه إلى هذا الشاب منذ أن ركبت القطار رغم أنه يجلس في مواجهتها.

وتأملت وجهه الحزين وعينيه الشاردتين وأنفه المدبَّب ولحيته الكثَّة وشَعره الأشعث، كان كأنما خرج لتوه من سجن طويل.

أما هو، فقد كان في تلك اللحظة يُبحِر بذكرياته في بحار الماضي حين كان شابًّا فتيًّا لا يحمل للدنيا همًّا، حتى أقنعه أحد أصدقائه بالسفر إلى الخارج، فأخذ يبحث عن عقد عمل ومضَت فترة عصيبة من حياته رهَن خلالها والدُه المنزل ليحصل على عقد العمل من إحدى شركات العمالة بالخارج، وباعت والدته كل ما تملكه من مصوغات لتدبِّر له ثمن تذكرة السفر، وسافر بالفعل إلى إحدى الدول الأوربية وبدأت مأساة عمره، في البداية اكتشفَ أن العقد مزيَّف وقضى بعدها عدة أيام في الفندق بدون عمل حتى وجد مهنة عامل نظافة في أحد المطاعم فعمل بها، وهناك تعرف على أحد المصريين وانتقل للسكن معه في حجرته بالفندق، وبعد أيام سرق جواز سفره وكل ما معه من مال وهرَب، وأظلمت الدنيا في وجهه؛ فلقد رفض صاحب المطعم استمراره في العمل؛ لأنه لا يحمل جواز سفر، وطرده أمن الفندق بعد أن جرَّدوه من ثيابه مقابل حساب الغرفة، فخرج إلى الشارع وراح يتسوَّل، وأغلقت الدنيا بابها في وجهه حين ألقت الشرطة القبض عليه وتم ترحيله إلى مصر، وها هو ذا عائد إلى قريته بأعين ذليلة وكرامة مهدرة، ماذا جنى من الغربة؟ سنوات ضاعت من عمره دون فائدة، ومشكلات لا حصر لها أوقع نفسه فيها، والتقطت أنفه رائحة غاز يتطاير في الهواء ويَختلط بالأنفاس، وأيقظه صراخ في نهاية العربة لرجل يبدو من هيئته أنه موظف بسيط في العقد الخامس من عمره يهتف في فزع:
نقودي، لقد سُرقت، النجدة.

والتفت إليه معظم ركاب العرَبة وأخذوا يتأمَّلونه في إشفاق بوجهه الشاحب المستطيل، وبروز عظام الوجنتين، وفكه العريض وهو يدور حول نفسه في حيرة، والركاب من حوله يحاولون تهدئته حتى جلس في حزن والتقط ورقة كان قد خطَّ بها بعض كلمات وأخذ يستعيد ما بها:
عيدية الأولاد 50 جنيهًا، حساب البقال 150 جنيهًا، إيجار الشقة 300 جنيه، دواء القلب 130 جنيهًا.

وابتسم في مرارة؛ لقد كان حزينًا لأن المرتب لن يكفيه بقية الشهر، ماذا سيفعل الآن وقد ضاع المرتَّب بأكمله؟ كيف سيقضي العيد هو وزوجته وأولاده؟ وما سيقول للبقال وصاحب المنزل؟ ووالدته الضريرة من أين سيأتي لها بدواء القلب الذي تحتاجه يوميًّا؟

وتلألأت حبات الدمع الحبيسة في عينيه وأحسَّ بحرارة الذلِّ والحاجة، وشعر بقدَم الفقر تطأ عنقه كما ظلت تفعل معه طوال عمره حتى أحنت ظهره وأثقلت قدمه، لم يكن يشعر بشيء مما حوله، كان حزنه ينقله إلى عالم آخر، عالم كئيب سيطر على تفكيره؛ لهذا فقد انتفَض حين أحسَّ بيدٍ توضَع على كتفِه فنظر إلى صاحبها فطالعه وجه شابٍّ يافع جلس إلى جواره ومد إليه يده ببعض النقود وهو يقول:
لقد جمعتها لك من ركاب القطار.

ثم أخرج من جيبه مبلغًا من المال وقال:
وهذه مني أنا.

ورغمًا عنه تسللت دمعه ساخنة من بين حصار عينيه لتجري على وجنتيه، وأتبعَها سيل الدمع الملتهِب ليتدفَّق فوق المجرى الأزلي له، وبعين يملؤها الدمع رأى الشاب يبتعد ليعود إلى مجلسه، ثم تأمل من بعيد وجهه الأسمر المستدير وملامحه الهادئة وعينيه اللامعتين وثغره الباسم، ثم نظر إلى النقود بين يديه، واستعاد عقله السؤال الذي سأله للشاب قبل رحيله: من أنت؟

وكيف ابتسم له في صمت قبل أن يعود إلى مكانه، لم يكن يعلم أن تلك النقود التي أعطاها له الشاب هي كل ما يملكه في جيبه؛ فقد كان عائدًا من وحدته في الجيش بعد أن أنهى فترة تجنيده، عاد والشوق يملؤه لمقابلة أهله وأصدقائه و...... وخطيبته.

لقد اتَّفق مع والدها على أن يكون موعد الزفاف بعد غدٍ ثاني أيام العيد، وتخيل نفسه بجوار حبيبته وهي في ثوب عرسها الأبيض كأميرة تخرج من أسطورة عشق قديمة تُشرق في ثوب من نور وضاء، والتقطت أذناه قرع الطبول وأصوات الدفوف وغناء النساء العذب الجميل، والصبية يلعبون في ضوء الأفرع المتلألئة، وعلا الضجيج في أذنيه.. طبول ودفوف وغناء........ ثم..

صراخ وعويل وبكاء.

وانتفض جسده كمَن يستفيق من حلمٍ جميل على كابوسٍ بَشِع، فوجد ألسنة النيران تلتهم المكان فتمتد من المقاعد والجدران إلى الأجساد المتكدِّسة داخل الصندوق المغلق، تنتقل في سرعة من عربة إلى أخرى.

رأى النار تَقترب منه، حاول أن ينهض من مقعده فمنعه الزحام والاضطراب فنظر في يأس إلى باب العربة المغلق والعشرات يتدافعون نحوه في ذعر، ففكَّر في القفز من النافذة، فارتطم ناظراه بالأعمدة الحديدية التي تقطع عليه الطريق.

شاهَدَ بعينين دامعتين أمله يضيع وحلمه يتحطم، شاهد امرأة حاملاً قد أمسكت بها النيران وزوجها يصارع لإنقاذها غير مبالٍ بألسنة النار التي أحرقت ملابسه، شاهَد الرجل ذا الجلباب الأسود ينتزع بيدَيه الأعمدة المتآكلة للنافذة ويَقفز منها لتسحقَه عجلات القطار الحديدية، ورأى الكمسري يسقط صريعًا تاركًا من خلفه دفتر التذاكر قد امتدَّت إليه النيران الواحدة تلو الأخرى، شاهد فتاة جميلة تركض نحو الباب المغلق تاركة من خلفها حقيبتها الصغيرة تلتهمها النار في سرعة فتصطدم برجل أشعث الشعر اشتعلت النار في ملابسه فتسقط على وجهها لتطأها الأقدام المذعورة، شاهد الموظَّف متفحم الجسد ويداه ما زالت تقبض على بقايا النقود المحترقة.

كان هذا آخر ما رأته عيناه قبل أن تمتدَّ النيران إلى مقعده فتقضي عليه مخلفة وراءها فوق بقايا المقعد كومة من الرماد كانت منذ برهة إنسانًا يحلم ويتمنى.

وهناك في عربة القيادة كان السائق يراقب الطريق في ملل وهو يدخن لفافة تبغ مصري الصنع وقد عاد باكرتَه إلى موعِد تسلم الوردية حين وجد عربات القطار خمس عشرة وليس اثنتي عشرة كما هو مُفترض، وعندما ذهَب إلى تلك العربات الثلاث، علم أنها قد خرجَت من قسم الصيانة دون أن تكمل صيانتها.

فذهب إلى رئيسه المباشر الذي أخبره أن عدد الركاب كثيرون جدًّا؛ لهذا فقد تم إخراج ثلاث عربات من الصيانة لتَحمِل باقي الركاب؛ حتى لا تنهال الشكاوى على المصلحة، وعندما واجهه بأن هذا فيه خطورة صرخ في وجهه:
لا شأن لك بهذا، اذهب إلى القِطار، وإلا سأحولك للتحقيق.

نفَض السائق عن نفسه توتُّره وألقى بالسيجارة المنتهية من النافذة، وعاد يتطلع إلى الطريق في صمت، وتلون الأفق بألوان الشروق الأولى، وسطع شعاع الفجر على قطار يمضي وسط الصحراء ومن خلفه يَجذب عربات اشتعلَت فيها النيران وبداخل تلك العربات تجمَّع عذاب ركابها في صرخة واحدة، انطلقت مع بزوغ طلائع الفجر الأولى لتُبدِّد سكون الليل.


تابع القراءة Résumé abuiyad

امثال و حكم

حضارتنا الاسلامية عبر التاريخ

الحضارة المغربية

تأملات

جميع الحقوق محفوظة ©2013