أخر الاخبار

إسلاميات

شعر

خواطر

التفكير الإيجابى

فكر و معرقة

ثقافة و فنون

تنمية شخصية إيجابية

الأربعاء، 2 أكتوبر 2013

فتح مكة وعبرته لحاضر المسلمين ومستقبلهم

0 التعليقات

كانت هناك هدنة الحديبية خيرًا على المسلمين، فقد قضوا خلالها على يهود في المدينة المنورة وخارجها عسكريا، فلم يعد لهم أي خطر عسكري يهدد المسلمين. كما أتاحت للمسلمين السيطرة على القبائل العربية في شمالي المدينة حتى حدود الشام والعراق، وانتشر الإسلام بين القبائل العربية كلها، فأصبح المسلمون القوة الضاربة الأولى في شبه الجزيرة العربية كلها.
ولم يبق أمام المسلمين غير فتح مكة، تلك المدينة المقدسة التي انتشر الإسلام فيها أيضًا، ولم يحل دون فتحها وعودة المستضعفين الذين أخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، إليها، غير صلح الحديبية الذي يحرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الوفاء به.
وقد أدى انتشار الإسلام بين قسم كبير من القبائل ومن ضمنها قريش وبقاء القسم الآخر على الشرك إلى تفرق كلمة القبائل واستحالة جمع تلك الكلمة على حرب المسلمين. ولم يبق في قريش زعيم مسيطر يستطيع توجيهها إلى ما يريد حين يريد: المسلمون فيها لا يخضعون إلا لأوامر الإسلام، والمشركون فيها بين متطرف يدعو للحرب مهما تكن نتائجها، ومعتدل يعتبر الحرب كارثة تحيق بقريش.
إعلان الحرب:
أراد بنو بكر حلفاء قريش أن يأخذوا بثاراتهم من بني خزاعة حلفاء المسلمين، وحرضهم على ذلك متطرفو قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل وقسم من سادات قريش، وأمدوهم سرًّا بالرجال والسلاح. وقامت بكر بالهجوم المباغت على خزاعة فكبدوهم خسائر في الأرواح والأموال، والتجأت خزاعة إلى البيت الحرام فطاردتهم بكر مصممة على القضاء عليهم غير مكترثة بصلح الحديبية، فانتهت الهدنة بين قريش وحلفائها من جهة، وبين المسلمين وحلفائهم من جهة أخرى، وكان الذي نقض هذه الهدنة قريشا وبكرا.

وسارع عمرو بن سالم الخزاعي بالتوجه إلى المدينة حاملا أنباء نقض صلح الحديبية، فلما وصل إلى المدينة قصد المسجد وقص على النبي صلى الله عليه وسلم ما أصاب خزاعةَ من بكر وقريش في مكة وخارجها، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرتَ يا عمرو بن سالم»!
وخرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا المدينة، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بما أصابهم فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على فتح مكة.
وقدر قادة قريش المعتدلون وعقلاؤهم ماذا يعنيه انتهاء الهدنة بين قريش والمسلمين، فقرروا إيفاد أبي سفيان بن حرب إلى المدينة للتشبث بتثبيت العهد وإطالة مدته.
ولما وصل أبو سفيان «عسفان» في طريقه إلى المدينة لاقى بديل بن ورقة وأصحابه عائدين من المدينة، فخاف أن يكونوا جاءوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه بما حدث بين بكر وخزاعة، مما يزيد مهمته التي جاء من أجلها تعقيدًا، إلا أن بديلا نفى مقابلته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا سفيان فحص فضلات راحلة بديل فوجد فيها نوى التمر، فعرف أنه كان في المدينة.
ووصل أبو سفيان إلى المدينة، فقصد دار ابنته أم حبيبة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يجلس على الفراش فطوته دونه فقال لها: «يا بنية! ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عني؟» فقالت: «بل هذا فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس». فقال: «والله لقد أصابكِ بعدي شر».
واستشفع أبو سفيان بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ليكلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأبى.. واستشفع بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأغلظ له في الرد وقال: «أأنا أشفع لكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به».
ودخل أبو سفيان على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعنده فاطمة رضي الله عنها، فقال علي: «والله يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه».
واستشفع أبو سفيان بفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أن يجير ابنها الحسن بين الناس، فقالت: «ما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم».
واستنصح أبو سفيان عليًّا بعد أن اشتدت عليه الأمور فنصحه أن يعود من حيث أتى، فقفل أبو سفيان عائدًا إلى قريش ليخبرهم بما لقي من صدود، ولم يبق هناك شك في إعلان الحرب.
الاستعدادات للحرب:
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه بإنجاز استعداداتهم للحركة، وبعث من يخبر قبائل المسلمين خارج المدينة بإنجاز استعداداتهم للحركة أيضًا، كما أمر أهله أن يجهزوه، ولكنه لم يخبر أحدًا بنياته الحقيقية ولا باتجاه حركته، بل أخفى هذه النيات حتى عن أقرب المقربين إليه، ثم أرسل سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم ليزيد من إسدال الستار الكثيف على نياته الحقيقية.

ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على ابنته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أي بنية! أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز. فقال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله لا أدري.
ولما اقترب موعد الحركة، صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سائر إلى مكة. وبث عيونه ليحول دون وصول أنباء اتجاه حركته إلى قريش، ولكن حاطب بن أبي بلتعة كتب رسالة أعطاها امرأة متوجهة إلى مكة، يخبرهم فيها بنيّات المسلمين، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة، وبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، فأدركاها وأخذا منها تلك الرسالة التي كانت معها.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبًا يسأله عما حمله على ذلك؟ فقال: يا رسول الله بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمَا إنه قد صدقكم؛ وما يدريك، لعل الله اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم». وشفع لحالطب ماضيه الحافل بالجهاد، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين أن يذكروه بأفضل ما فيه.

 
 
فتح مكة
فتح مكة
في الطريق إلى مكة المكرمة:
غادر المسلمون المدينة المنورة في رمضان من السنة الثامنة الهجرية في عشرة آلاف رجل، بقيادة الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام قاصدين فتح مكة، وكان جيش المسلمين مؤلفًا من الأنصار والمهاجرين وسليم ومزينة وغطفان وغفار وأسلم.. وطوائف من قيس وأسد وتميم وغيرهم من القبائل الأخرى، في عدد وعُدد لم تعرفه الجزيرة العربية من قبل، وكلما تقدم الجيش من هدفه ازداد عدده بانضمام مسلمي القبائل التي تسكن على جانبي الطريق إليه. ومع كثافة هذا الجيش وقوته وأهميته، فقد بقي سر حركته مكتومًا لا تعرف قريش عنه شيئًا. فبالرغم من اعتقاد قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم في حل من مهاجمتهم، ولكنها لم تكن تعرف متى وأين وكيف سيجري الهجوم المتوقع. ولشعور قريش بالخطر المحدق بها، أسرع كثير من رجالها بالخروج إلى المسلمين لإعلان إسلامهم، فصادف بعض هؤلاء، ومنهم العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، جيشَ المسلمين في طريقه إلى مكة المكرمة.

ووصل جيش المسلمين إلى موضع مرّ الظهران على مسافة أربعة فراسخ من مكة، فعسكر المسلمون هناك. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقد كل مسلم في جيشه نارًا، حتى ترى قريش ضخم الجيش دون أن تعرف هويته فيؤثر ذلك في معنوياتها فتستسلم للمسلمين دون قتال، وبذلك يحقق النبي صلى الله عليه وسلم هدفه السلمي في فتح مكة بدون إراقة دماء.
وأوقد عشرة آلاف مسلم نيرانهم، ورأت قريش تلك النيران تملأ الأفق البعيد، فأسرع أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام بالخروج باتجاه النيران، ليعرفوا مصدرها ونيات أصحابها، فلما اقتربوا من موضع معسكر المسلمين قال أبو سفيان: هذه والله خزاعة حمشتها [جمعتها] الحربُ. فلم يقتنع أبو سفيان بهذا الجواب، فقال: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
وكان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من معسكر المسلمين راكبًا بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ليخبر قريشًا بالجيش العظيم الذي جاء لقتالها والذي لا قبل لها به، حتى يؤثر في معنوياتها ويضطرها إلى التسليم دون قتال، فيحقن بذلك دماءها ويؤمن لها صلحًا شريفًا ويخلصها من معركة خاسرة معروفة النتائج سلفًا، فسمع وهو في طريقه محاورة أبي سفيان وبديل بن ورقاء، فعرف العباس صوت أبي سفيان، فناداه وأخبره بوصول جيش المسلمين ونصحه بأن يلجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينظر في أمره قبل أن يدخل الجيش فاتحًا صباح غد، فيحيق به وبقومه ما يستحقونه من عقاب.
وأردف العباسُ أبا سفيان على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجّها نحو معسكر المسلمين، فلما وصلا إلى المعسكر ودخلاه أخذا يمران بنيران الجيش في طريقهما إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مرّا ينار عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرف أبا سفيان وأدرك أن العباس يريد أن يجيره، فأسرع عمر إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم وسأله أن يأمره بضرب عنق أبي سفيان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمه أن يستصحب أبا سفيان إلى خيمته، ثم يحضره إليه صباح غد، فلما كان الصباح وجيء بأبي سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلمَ ليحقن دمه، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستوثق من سير الأمور كما يحب بعيدًا عن وقوع الحرب، فأوصى العباس باحتجاز أبي سفيان في مضيق الوادي حتى يستعرض الجيش الزاحف كله، فلا تبقى في نفسه أية فكرة للمقاومة.
قال العباس: خرجتُ بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: سليم. فيقول: مالي ولسليم! ثم تمر به القبيلة فيقول: ياعباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة. فيقول: ومالي ولمزينة! حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال: مالي ولبني فلان! حتى مرّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منها إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله، يا عباس! من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة! والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا. فقال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: نعم إذن. عند ذلك قال العباس لأبي سفيان: النجاء إلى قومك، فأسرع أبو سفيان إلى مكة.
قبل دخول مكة المكرمة:
دخل أبو سفيان مكة مبهورًا مذعورًا، وهو يحس أن من ورائه إعصارًا إذا انطلق اجتاح قريشًا وقضى عليها. ورأى أهل ملكة قوات المسلمين تقترب منهم، ولم يكونوا حتى ذلك الوقت قد قرروا قرارًا حاسمًا بشأن القتال ولا اتخذوا تدابير القتال الضرورية، فاجتمعوا إلى ساداتهم ينتظرون الرأي الأخير، فإذا بصوت أبي سفيان ينطلق مجلجلا جازمًا: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان كان آمنًا.

وسمعت هند بنت عتبة بن ربيعة زوج أبي سفيان التي كانت تشايع المتطرفين من مشركي قريش ما قاله زوجها، فوثبت إليه وأخذت بشاربه وصاحت: اقتلوا هذا الحميت الدسم الأحمس [أي هذا الزق المنتفخ]، قبّح من طليعة قوم.
ولم يكترث أبو سفيان بسباب امرأته، فعاود تحذيره: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
وقالت قريش: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
وأصبحت مكة المكرمة تنتظر دخول المسلمين: اختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، واجتمع بعضهم في المسجد الحرام، وبقي المتطرفون مصرين على القتال.
خطة الفتح:
كانت مجمل خطة الفتح تتلخص في: الميسرة بقيادة الزبير بن العوام، واجبها دخول مكة من شماليها.

والميمنة بقيادة خالد بن الوليد، واجبها دخول مكة من جنوبها، وقوات الأنصار بقيادة سعد بن عبادة، واجبها دخول مكة من غربيها، وقوات المهاجرين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح واجبها دخول مكة من شماليها الغربي من اتجاه جبل هند. ومثابة اجتماع قوات المسلمين بعد إنجاز الفتح في منطقة جبل هند. وكان اجتماع قوات المسلمين بعد إنجاز الفتح في منطقة جبل هند.
وكانت أوامر النبي صلى الله عليه وسلم لقادته تنص على ألا يقاتلوا إلا إذا اضطروا اضطرارًا إلى القتال، لغرض أن يتمّ الفتح سلميًّا وبدون قتال.
ودخلت قوات المسلمين مكة فلم تلق مقاومة، إلا جيش خالد بن الوليد، فقد تجمع متطرفو قريش مع بعض حلفائهم من بني بكر في منطقة الخندفة، فلما وصلها رتل خالد أمطروه بوابل من نبالهم، ولكن خالدًا لم يلبث أن فرّقهم بعد أن قُتل رجلان من رجاله ضلا طريقهما وانفصلا عنه، ولم يلبث صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل حين رأوا الدائرة تدور عليهم أن تركوا مواضعهم في الخندمة وفروا مع قواتهم، واستسلمت المدينة المقدسة للمسلمين، وفتحت أبوابها لهم، وعاد المستضعفون الذين أخرجوا منها بغير حق إلى ديارهم وأموالهم.

في مكة المكرمة:
عسكر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في منطقة جبل هند، بعد أن سيطر المسلمون على جميع مداخل مكة، فلما استراح وتجمعت أرتال الجيش، نهض والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت العتيق وحول البيت، وكان في الكعبة ستون وثلاثمائة صنم، يطعنها بالقوس وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطلُ إن الباطل كان زهوقًا.. جاء الحق وما يُبدِئُ الباطل وما يعيد) ثم دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة ودخلها، فرأى الصور تملأها، ومن بينها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فمحا ما في الكعبة من صور، ثم صلى ودار في البيت يكبر، ولما انتهى تطهير البيت من الأصنام والصور، وقف على باب الكعبة، وقريش تنظر ماذا يصنع، فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة أو مال فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش، إن الله قد أذهبَ عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللهِ أتقاكم إن الله عليم خبير. يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: « فإني أقول كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء».

طهر المسلمون البيت من الأصنام، وأتم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أول يوم من أيام فتح مكة ما دعا إليه منذ عشرين سنة: أتم تحطيم الأصنام والقضاء على الوثنية في البيت الحرام بمشهد من قريش، ترى أصنامها التي كانت تعبد ويعبد آباؤها، وهي لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا.
وأقام النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يومًا، نظّم خلالها شئون مكة، وفقّه أهلها في الدين، وأرسل بعض السرايا للدعوة إلى الإسلام وتحطيم الأصنام، من غير سفك للدماء.
عبرة الفتح:
 1-الكتمان
ما أحوج المسلمين اليوم أن يتعلموا الكتمان من هذه الغزوة، فأمورهم كلها مكشوفة، بل مكشّفة، وأعداؤهم يعرفون عنهم كل شيء، لا تكاد تخفى عليهم، فلا سر لدى المسلمين يبقى مكتومًا.

لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أشد الحرص على ألا يكشف نياته لفتح مكة لأي إنسان، عندما اعتزم التحرك إلى مكة وكان سبيله إلى ذلك الكتمان الشديد.
لم يبح بنياته لأقرب أصحابه من نفسه أبي بكر الصديق، بل لم يبح بنياته لأحب النساء إليه عائشة بنت أبي بكر الصديق، وبقيت نياته مكتومة حتى أنجز هو وأصحابه جميع استعدادات الحركة، وحتى وصل أمر الاستحضار إلى المسلمين كافة خارج المدينة وداخلها، ولكنه كشف نياته في الحركة إلى مكة قبيل موعد خروجه من المدينة، حيث لم يبق هناك مسوغ للكتمان، لأن الحركة أصبحت وشيكة الوقوع.
ومع ذلك، بث عيونه وأرصاده، لتحول دون تسرب المعلومات عن حركته إلى قريش.
بث عيونه داخل المدينة ليقضي على كل محاولة لتسريب الأخبار من أهلها إلى قريش، وقد رأيتَ كيف اطلع على إرسال حاطب بن أبي بلتعة برسالته إلى مكة، فاستطاع حجز تلك الرسالة.
وبث عيونه وأرصاده داخل المدينة وخارجها ليحرم قريشًا من الحصول على المعلومات عن نيات المسلمين، وليحرم المنافقين والموالين لقريش من إرسال المعلومات إليها.
وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظًا كل اليقظة، حذرًا كل الحذر، حتى وصل إلى ضواحي مكة، ونجح بترتيباته في حرمان قريش من معرفة نيات المسلمين أعظم نجاح.
ولكي يلقي النبي صلى الله عليه وسلم ظلا كثيفًا من الكتمان على نياته، بعث سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم، شمالي المدينة المنورة، بينما كان يستعد لفتح مكة في جنوب المدينة المنورة، فسارت أخبار المسلمين بأنهم يتجهون شمالا لكتمان اتجاههم نحو الجنوب.
ولو انكشفت نيات المسلمين لقريش في وقت مبكر، لاستطاعت حشد حلفائها وتنظيم قواتها وإعداد خطة مناسبة لمقابلة المسلمين، ولاستطاعت مقاومة المسلمين أطول مدة ممكنة دفاعًا عن مكة المكرمة ولأوقعت بهم خسائر في الأرواح والأموال، وكانت قريش قد استطاعت حشد عشرة آلاف مقاتل في غزوة الأحزاب كما هو معروف، وباستطاعتها أن تحشد مثل هذا الحشد وأكثر دفاعًا عن مكة.
وليس من السهل أن يتحرك جيش ضخم تعداده عشرة آلاف مقاتل من المدينة إلى مكة بالمراحل دون أن تعرف قريش وقت حركته وموعد وصوله ونياته، حتى يصل ذلك الجيش اللجب إلى ضواحي مكة القريبة، فيفلت الأمر من قريش، ولا تعرف ما تصنع إلا اللجوء إلى الاستسلام دون مقاومة.
إن تدابير النبي صلى الله عليه وسلم في الكتمان أمّنت له مباغتة كاملة لقريش، وأجبرتها على الرضوخ للأمر الواقع: الاستسلام.
وهذا الكتمان لا مثيل له في سائر الحروب، ما أحرانا أن نتعلمه ونقتدي به ونسير على منواله.
2-بعد النظر:
القائد المتميز هو الذي يتسم ببعد النظر، بالإضافة إلى مزاياه الأخرى، ويتخذ لكل أمر محتمل الوقوع التدابير الضرورية لمعالجته، دون أن يترك مصائر قواته للاحتمالات بدون إعداد كامل.

إن النصر من عند الله، يؤتيه من يشاء، ولكن الله سبحانه وتعالى ينصر من أعدّ عدّته واحتاط لكل احتمال كبير أو صغير قد يصادفه، لذلك يشدد العسكريون على إدخال أسوأ الاحتمالات في حسابهم في أية عملية عسكرية.
لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحبس أبو سفيان في مدخل الجبل إلى مكة، حتى تمر عليه جنود المسلمين، فيحدث قومه عن بينة ويقين، ولكي لا يكون إسراعه في العودة إلى قريش قبل أن تنهار معنوياته تمامًا، سببًا لاحتمال وقوع أية مقاومة من قريش، مهما يكن نوعها ودرجة خطورتها. وفعلا اقتنع أبو سفيان بعد أن رأى قوات المسلمين كلها، أن قريشًا لا قبل لها بالمقاومة.
وقد أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في حساباته أسوأ الاحتمالات أيضًا، عند تنظيمه خطة الفتح، فكانت تلك الخطة تؤمن تطويق البلد من جهاته الأربع بقوات مكتفية بذاتها، بإمكانها العمل مستقلة عن القوات الأخرى عند الحاجة، وبذلك تستطيع القضاء على أية مقاومة في أية جهة من جهات مكة، كما تؤمن توزيع قوات قريش إلى أقسام لمقاومة كل رتل من أرتال المسلمين على انفراد، فتكون قوات قريش ضعيفة في كل مكان.
واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم هذه التدابير الفاعلة بالرغم من اعتقاده بأن احتمال مقاومة قريش للمسلمين ضعيف جدًّا، وذلك ليحول دون مباغتة قواته وإيقاع الخسائر لها، مهما تكن الظروف والأحوال.
فما أحرى أن يتعلم المسلمون هذا الدرس ويطبقوه في إعداد خططهم المصيرية!

3-العقيدة:
كان جيش الفتح مؤلفًا من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل العربية المعروفة في حينه، لا يوحد بينه غير العقيدة الواحدة، التي يضحي الجميع من أجلها، وتشيع بينهم الانسجام الفكري الذي يجعل التعاون الوثيق بيهم سائدًا.

لقد كانت انتصارات المسلمين الأولين انتصارات عقيدة بلا مراء، وكان النصر من أول ثمرات هذه العقيدة على النطاق الجماعي.
أما على النطاق الفردي، فقد رأيت كيف طوت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فراش النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها أبي سفيان، وقد جاء من سفر قاصد بعد غياب طويل؛ ذلك لأنها رغبت به عن مشرك نجس، ولو كان هذا المشرك أباها الحبيب.
وعندما جاء أبو سفيان مع العباس ليواجه النبي صلى الله عليه وسلم، رآه عمر بن الخطاب، فغادر خيمته واشتد نحو خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إليها قال: يا رسول الله! دعني أضرب عنقه. قال العباس: يا رسول الله! إني قد أجرته، فلما أكثر عمر قال العباس: مهلا يا عمر، ما تصنع هذا إلا لأنه من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة، فقال عمر: مهلا يا عباس، فوالله إسلامك يوم أسلمت كان أحب لي من إسلام الخطاب لو أسلم. لقد كان يمثل عقيدة المسلمين الأولين، بينما كان العباس حديث عهد بالإسلام.
وكيف نعلل إقدام المهاجرين على المشاركة في غزوة الفتح، التي لم يكن من المستبعد أن تصطرع فيها قوات المسلمين وقوات قريش؟
إن عقيدة المسلمين لا تخضع للمصالح الشخصية، بل هي رهن المصالح العامة وحدها، وقد انتصر المسلمون بالعقيدة الراسخة، وهي اليوم غائبة عنهم فذلوا وهزموا، فما أحراهم أن يعودوا إلى عقيدتهم ليستعيدوا مكانتهم بين الأمم، ولينتصروا على أعدائهم، فقد غاب عنهم النصر منذ غاب عنهم الإسلام.

4-المعنويات:
لم تكن معنويات المسلمين في وقت من الأوقات أعلى وأقوى مما كانت عليه أيام فتح مكة، البلد المقدس عند المسلمين الذين يتوجهون إليه في صلاتهم كل يوم، ويحجون بيته كل سنة. وكانت أهمية مكة للمهاجرين أكثر من أنها بلد مقدس، فهي بلدهم الذي هاجروا منه فرارًا بدينهم وخلفوا فيها أموالهم وذويهم وكل عزيز عليهم.

لذلك لم يتخلف أحد من المسلمين عن هذه الغزوة إلا القليل من ذوي الأعذار القاهرة الصعبة.
أما معنويات قريش، فقد كانت متردية للغاية، فقد أثرت فيهم عمرة القضاء، كما أثر فيهم انتشار الإسلام في كل بيت من بيوت مكة تقريبًا، وبذلك فقدت مكة روح المقاومة وروح القتال. ومما زاد في انهيار معنويات قريش، ما اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم من إيقاد عشرة آلاف نار في ليلة الفتح، ومرور الجيش كله بأبي سفيان قائد قريش أو أكبر قادتها، ودخول أرتال المسلمين في كل جوانب مكة.
لقد كانت غزوة الفتح معركة معنويات بالدرجة الأولى، ما أحرانا أن نتعلمها لحاضرنا ومستقبلنا.

5-السلم:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم من خروجه لفتح مكة على نياته السلمية، ليؤلف بذلك قلوب المشركين، ويجعلها تقبل على الإسلام.

وقد عهد عليه الصلاة والسلام إلى قادته حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم. وبقي النبي صلى الله عليه وسلم مصرًّا على نياته السلمية بعد الفتح أيضًا، فقد أصدر العفو العام عن قريش قائلًا: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
وكما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على السلم الجماعي، حرص كذلك على السلم الفردي، فمنع القتل حتى لفرد واحد من المشركين، مهما تكن الأسباب والأعذار.
فقد قتلت خزاعة حلفاء المسلمين رجلا من هذيل غداة يوم الفتح لثأر سابق لها عنده، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب، وقام في الناس خطيبًا، ومما قاله: «يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلا لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا قدم قاتله، وإن شاءوا فعقله»، أي ديته، ثم ودي بعد ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل رجلا من المشركين أراد اغتياله شخصيًّا وهو يطوف في البيت، بل تلطف معه. فقد اقترب فضالة بن عمير يريد أن يجد له فرصة ليقتله، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم نظرة عرف بها طويته، فاستدعاه وسأله: «ماذا كنت تحدث به نفسك؟» قال: لا شيء، كنتُ أذكر الله! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وتلطف معه ووضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.
ورأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه مفتاح الكعبة بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال عليه الصلاة والسلام: «أين عثمان بن طلحة؟» فلما جاء عثمان قال له: «يا ابن طلحة، هاكَ مفتاحك، اليوم يوم بر ووفاء».
وقد رأى المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يتواضع لله، حتى رأوه يوم ذلك ورأسه قد انحنى على رحله، وبدا عليه التواضع الجم، حتى كادت لحيته تمس واسطة راحلته خشوعًا، وترقرقت في عينيه الدموع تواضعًا لله وشكرًا.
تلك هي سمات الخلُق الإسلامي الرفيع في السلم والوفاء والتواضع، ولكنه سلم الأقوياء لا سلم الضعفاء، ووفاء القادرين لا وفاء العاجزين، وتواضع العزة لا تواضع الذلة.
إن سلم الأقوياء القادرين هو السلام الذي يأمر به الإسلام، أما سلم الضعفاء العاجزين فهو الاستسلام الذي ينهى عنه الإسلام.
ذلك ما ينبغي أن نتعلمه من فتح مكة، لحاضر المسلمين ومستقبلهم، لحاضر أفضل ومستقبل أحسن، وهي عبر لمن يعتبر.



تابع القراءة Résumé abuiyad

تاريخ المسجد النبوي

0 التعليقات

قصة بناء المسجد النبوي:
أسس النبي المسجد النبوي في ربيع الأول من العام الأول من هجرته، وكان طوله سبعين ذراعًا، وعرضه ستين ذراعًا، أي ما يقارب 35 مترًا طولاً، و30 عرضًا، جعل أساسه من الحجارة والدار من اللَّبِن وهو الطوب الذي لم يحرق بالنار، وكان النبي يبني معهم اللَّبِن والحجارة، وجعل له ثلاثة أبواب، وسقفه من الجريد.
روى البخاري قصة بنائه في حديث طويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه أن النبي: أَمَرَ ببناء المسجد، فأرسل إلى ملإ بني النجار فجاءوا، فقال: "يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي حَائِطَكُمْ هَذَا". فقالوا: لا واللَّه، لا نطلب ثمنه إلَّا إلى اللَّه. قال: فكان فيه ما أقول لكم، كانت فيه قبور المشركين، وكانت فيه خربٌ، وكان فيه نخلٌ، فأمر رسول اللَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بقبور المشركين فَنُبِشَتْ، وَبِالخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، قال: فصفُّوا النَّخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه (خشبتان مثبتتان على جانبي الباب) حجارةً، قال: قال جعلوا ينقلون ذاك الصَّخر وهم يرتجزون، ورسول اللَّه صلَّى الله عليه وسلَّم معهم، يقولون: "اللَّهُمَّ إِنَّهُ لاَ خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الآخِرَهْ، فَانْصُرِ الأَنْصَارَ وَالمُهَاجِرَهْ"(1).
ولما ازدحم المسجد وكثر المسلمون قام النبي بتوسيعه؛ وذلك في السنة السابعة من الهجرة بعد عودته من خيبر فزاد في طوله عشرين ذراعًا وفي عرضه كذلك، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه هو الذي اشترى هذه البقعة التي أضافها النبي صلى الله عليه وسلم(2).
ومسجد النبي هو المسجد الذي أسس على التقوى كما في صحيح مسلم(3)، وفيه قال النبي: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ"(4). وفيه أيضًا قال النبي: "مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حِجَّتُهُ"(5).
منبر النبي
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي"(6). قوله: "على حوضي": أي أنه يعاد هذا المنبر على حاله وينصب على حوضه.
وكان النبي يخطب أولاً إلى جذع نخلة ثم صنع له المنبر فصار يخطب عليه، روى البخاري في صحيحه عن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتُمْ". فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى المِنْبَرِ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ. قَالَ: "كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَهَا"(7). وأقيم بعد الجذع ماكنه أسطوانة تعرف بالأسطوانة المخلقة أي: المطيبة.
ولحرمة هذا المنبر جعل النبي إثم من حلف عنده -كاذبًا- عظيمًا، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "لَا يَحْلِفُ عِنْدَ هَذَا الْمِنْبَرِ عَبْدٌ وَلَا أَمَةٌ، عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ، وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ رَطْبٍ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ"(8).
الروضة الشريفة
هي موضع في المسجد النبوي الشريف واقع بين المنبر وحجرة النبي، ومن فضلها ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي"(9). وذرعها من المنبر إلى الحجرة 53 ذراعًا، أي حوالي 26 مترًا ونصف متر.
الصُّفَّة
بعدما حُوِّلت القبلة إلى الكعبة أمرالنبي بعمل سقف على الحائط الشمالي الذي صار مؤخر المسجد، وقد أعد هذا المكان لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل وإليه ينسب أهل الصفة رضي الله عنهم.
الحجرة
هي حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها، دُفِن فيها النبي بعد وفاته، ثم دفن فيها بعد ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه سنة 13 هـ، وكان رضي الله عنه قد أوصى عائشة أن يدفن إلى جانب رسول الله؛ فلما توفي حفر له وجعل رأسه عند كتفي رسول الله(10). ودفن فيها بعدهما عمر رضي الله عنه سنة 24 هـ إلى جانب الصديق، وكان قد استأذن عائشة في ذلك فأذنت له(11).
صفة القبور هي كالتالي
قبر النبي في جهة القبلة مقدمًا، يليه خلفه قبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه ورأسه عند منكب النبي، ويليه خلفه قبر عمر الفاروق رضي الله عنه، ورأسه عند منكب الصديق، كانت الحجرة الشريفة من جريد مستورة بمسوح الشعر، ثم بنى عمر بن الخطاب حائطًا قصيرًا، ثم زاد فيه عمر بن عبد العزيز في عهد الوليد بن عبد الملك(12)، أعاد عمر بن عبد العزيز بناء الحجرة بأحجار سوداء بعدما سقط عليهم الحائط، فبدت لهم قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه(13). ثم جُدد جدار الحجرة الشريفة في عهد قايتباي (881هـ).
الحائط المُخَمَّس
هو جدار مرتفع عن الأرض بنحو 13 ذراعًا؛ أي ستة أمتار ونصف، بناه عمر بن عبد العزيز سنة 91 هـ حول الحجرة الشريفة، وسُمِّي مُخَمسًا لأنه مكون من خمسة جدران وليس له باب، وجعله مخمسًا حتى لا يشبه بالكعبة.
محاولات سرقة جسد النبي وصاحبيه
1- محاولة الحاكم العبيدي: الحاكم بأمر الله (توفي 411 هـ) الأولى: أراد نقل أجسادهم إلى مصر، وكلف بذلك أبا الفتوح الحسن بن جعفر، فلم يُفق بعد أن جاءت ريح شديدة تدرحجت من قوتها الإبل والخيل، وهلك معها خلق من الناس، فكانت رادعًا لأبي الفتوح عن نبش القبور وانشرح صدره لذلك، واعتذر للحاكم بأمر الله بالريح. انظر تفصيلها في: وفاء الوفاء للسمهودي (2/653).
2- المحاولة الثانية للحاكم بأمر الله، فقد أرسل من ينبش قبر النبي، فسكن دارًا بجوار المسجد وحفر تحت الأرض فرأى الناس أنوارًا وسُمع صائح يقول: أيها الناس إن نبيكم يُنبش. ففتش الناس فوجدوهم وقتلوهم. المصدر السابق.
3- محاولة بعض ملوك النصارى عن طريق نصرانيين من المغاربة في سنة (557 هـ) في عهد الملك نور الدين زنكي؛ فقد رأى الملك في منامه النبي يقول: أنجدني أنقذني من هذين -يشير إلى رجلين أشقرين- فتجهز وحج إلى المدينة في عشرين رجلاً، ومعه مال كثير، فوصل المدينة في (16 يومًا)، وكان الناس بالمدينة يأتون إليه يعطيهم من الصدقات؛ حتى أتى عليه أهل الناس بالمدينة كلهم، ولم يجد فيهم الرجلين اللذين رآهما في المنام، فسأل الناس: هل بقي أحد؟ فذكروا له رجلين مغربيين غنيَّين يكثران من الصدقة على الناس، وذكروا من صلاحهما وصلاتهما، فطلبهما، فأتي بهما، فوجدهما اللذين رآهما في المنام، فسألهما، فذكرا أنهما جاءا للحج، وكان منزلهما برباط قرب الحجرة الشريفة، فذهب بهما إلى منزلهما فلم يجد فيه شيئًا مريبًا، وذكر الناس عنده من صلاحهما وعبادتهما فبقي السلطان يطوف في البيت بنفسه، فرفع حصيرًا فيه، فرأى سردابًا محفورًا ينتهي إلى قرب الحجرة الشريفة... فضربهما فاعترفا بحالهما الحقيقي، وأنهما جاءا لسرقة جسد النبي... فضرب رقابهما تحت الشباك الذي يلي الحجرة الشريفة.
انظر تفصيلاً أكثر في وفاء الوفا (2/648). وبعد هذه الحادثة أمر السلطان نور الدين زنكي ببناء سور حول الحجرة الشريفة فحفر خندقًا عميقًا وصبّ فيه الرصاص.
4- محاولة جماعة من نصارى الشام، فإنهم دخلوا الحجاز وقتلوا الحجيج، وأحرقوا مراكب المسلمين البحرية... ثم تحدثوا أنهم يريدون أخذ جسد النبي، فلما لم يكن بينهم وبين المدينة إلا مسيرة يوم لحقهم المسلمون -وكانوا بعيدين منهم بنحو مسيرة شهر ونصف- فقتلوا منهم وأسروا، وكانت آية عظيمة.
انظر رحلة ابن جبير (ص31-32).
5- حاول جماعة من أهل حلب في القرن السابع إخراج جسد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ودفعا مالاً عظيمًا لأمير المدينة، فاتفقوا أن يدخلوا ليلاً، فطلب الأميرُ شيخَ الخدام بالمسجد النبوي، وهو شمس الدين صواب اللمطي، وأمره أن يفتح لهم الباب بالليل، ويمكنهم مما أرادوا، فاهتم لذلك؛ فلما جاءوه ليلاً وكانوا أربعين رجلاً فتح لهم ومعهم آلات الحفر والشموع قال شيخ الخدام: فوالله ما وصلوا المنبر حتى ابتلعتهم الأرض جميعهم بجميع ما كان معهم من الآلات، ولم يبق لهم أثر...
وهذه الحكاية لا تعرف عن غير شمس الدين صواب، فإنه لم يشهدها أحد غيره، وأمر الأمير بكتمها، ولم يحدث بها إلا أناسًا قليلين، وصواب هذا شيخ صالح أثنى عليه السخاوي كما ذكر ذلك في التحفة اللطيفة (2/248)، وذكر أن له قصة سيذكرها في ترجمة هارون بن عمر بن الزغب، ولم أجد ترجمته في المطبوع من هذا الكتاب، فالله أعلم بحقيقة الحال، وقد ذكر هذه القصة بتفصيل السمهودي في وفاء الوفا (2/653) عن المحب الطبري. والله أعلم.
من البدع المتعلقة بزيارة المسجد النبوي
التمسح بشبابيك الحجرة الشريفة وتقبيلها وإلصاق الصدر والبطن بها، قال شيخ الإسلام (المجموع 27/79): "واتفق العلماء على أن من زار قبر النبي أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين والصحابة وأهل البيت وغيرهم، أنه لا يتمسّح به ولا يقبله؛ بل ليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيله إلا الحجر الأسود". اهـ، لا يشرع الطواف بالحجرة الشريفة؛ لأن الطواف عبادة ولم يشرع إلا حول الكعبة قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]؛ لذا يعد الطواف بالقبور أيًّا كانت شركًا أكبر ناقلاً عن الملة.
توسعات المسجد النبوي عبر التاريخ
1- توسعة النبي سنة (7 هـ) بعد عودته من خيبر.
2- توسعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة (17 هـ)، وبنى خارج المسجد رحبة مرتفعة عرفت باسم البطيحاء جعلها لمن أراد رفع صوته بشعر أو كلام أو غيره حفاظًا على حرمة المسجد.
3- توسعة عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة (29 هـ).
4- توسعة الوليد بن عبد الملك الأموي (من سنة 88 هـ إلى 91 هـ).
5- توسعة الخليفة المهدي العباسي (من سنة 161 هـ إلى 165 هـ).
6- توسعة الأشرف قايتباي سنة 888 هـ إثر احتراق المسجد النبوي.
7- توسعة السلطان العثماني عبد المجيد (من سنة 1265 هـ إلى 1277 هـ).
8- توسعة الملك عبد العزيز آل سعود (من سنة 1372 هـ إلى 1375 هـ).
9- توسعة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود (من سنة 1406 هـ إلى 1414 هـ).
المصدر: موقع المنبر.

تابع القراءة Résumé abuiyad

الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

خيرية الأمة

0 التعليقات
تناولنا في مقال سابق جوانب من وسطية الأمة الإسلامية، وأكدنا أنه لا وسطية إلا بالمحافظة على العمل بهدي خاتم النبيّـين صلى الله عليه وسلم والاستقامة على سُنّـته.. وأي انحراف عن هذه الجادّة، هو انحراف عن مسار الأمة الوسط، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110].
وفي هذا المقام يسعنا أن نلقي الضوء على الأمة الخيّـرة التي تشهد على الناس جميعًا، فتـقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها، فيكون هو الرأي المعتمد، وتـزن قيمهم وتصوّراتهم وتقاليدهم وشعائرهم، فتفصل في الأمر، وتقول: هذا حق، وهذا باطل.
 والرسول صلى الله عليه وسلم يقرّر لها موازينها وقيمها، ويحكم على أعمالها وتقاليدها، ويزن ما يصدر عنها، ويشهد عليها، ويقول الكلمة الأخيرة.
 والتعبير بكلمة «أُخْرِجَتْ» يلفت النظر، وهو يكاد يشي بالقدرة اللطيفة، تُخرج هذه الأمة إخراجًا، وتدفعها إلى الظهور دفعًا من ظلمات الغيب، ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله تعالى. إنها كلمة تصوّر حركة خفيفة المسرى، لطيفة الدبيب.. حركة تُخرج على مسرح الوجود أمّـةً وسطًا، ذات دور خاص، لها مقام خاص، ولها حساب خاص، وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة الإسلامية، خير الأمم، لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها «أُخْرِجَتْ» لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة، بما أنها خير أمّة، والله عزّ وجلّ يريد أن تكون القيادة للخير لا للشرّ في هذه الحياة. ومن ثم لا ينبغي لخير أمّـة أن تـتلقّى من غيرها من أمم الأرض قاطبة، وإنما ينبغي دائمًا أن تعطي الأمم الأخرى مما عرفـته من كتاب ربّـها، وسُنّـة نبيّـها؛ من الاعتقاد الصحيح، والتصوّر الصحيح، والنظام الصحيح، والخُلق الصحيح، والعلم الصحيح، هذا واجب خير الأمم، يحتّـمه عليها مكانها القيادي، وتحتّـمه عليها غاية وجودها، كما أن من واجبها أن تكون في الطليعة دائمًا، وفي مركز القيادة دائمًا، ولهذا المركز تبعاته، فهو لا يؤخذ ادعاءً، ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلاً له.

وأمتنا بتصوّرها الاعتقادي، وبنظامها الاجتماعي أهلٌ له، فبقي عليها أن تكون بتـقدّمها العلمي، وبعمارتها للأرض -قيامًا بحق الخلافة- أهلاً له كذلك، وبهذا يتبيّـن أن منهج هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير، ويدفعها إلى السبق في كل مجال، لو أنها تـتبعه وتلـتزم به، وتدرك مقـتضياته وتـكاليفه.
 وفي قوله جلّ شأنه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّـةٍ} ثـلاثـة أوجـه: أحدها: «كان» تامة، فالمعنى وُجدتم خير أمّة، كأنه قال: أنتم خير أمة في الوجود الآن؛ لأن جميع الأمم غلب عليها الفساد، فلا يعرف فيها المعروف، ولا ينكر فيها المنكر، وليست على الإيمان الصحيح الذي يَزَع أهله عن الشـرّ، ويصرفهم إلى الخير، وأنتم تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله إيمانًا صحيحًا يظهر أثره في العمل.
 الوجه الثاني: «كان» ناقصة، والمعنى حينـئذ، كنتم في علم الله، أو كنـتم في الأمم السابقة، كما في كتبها المبشّرة بكم خير أمّة. وقال أبو مسلم: إن هذا القول يقال لمن ابيضّت وجوههم، والمعنى كنتم فيما سبق من أيّام حياتكم خير أمّة، شأنكم كذا وكذا، وبذلك كان لكم هذا الجزاء الحسن. فالكلام عنده تـتمة للآيات السابقة، فكما ذكر فيها ما يقال لمن اسودّت وجوههم، ذكر أيضًا ما يقال لمن ابيضّـت وجوههم.. وقيل غير ذلك.
 الوجه الثالث: «كان» بمعنى صار، أي صرتم خير أمّـة. وإذا فسّـرت «كُنتُمْ» بغير ما قاله أبو مسلم - وهو ما أُرجّحه - كانت الجملة شهادة من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتـبعه من المؤمنين الصادقين إلى زمن نزولها بأنها خير أمّـة أخرجت للناس بتلـك المزايا الثلاث، ومن اتـبعهم فيها كان له حكمهم لا محالة، ولكن هذه الخيريّـة لا يستحقّـها من ليس لهم من الإسلام واتّـباع النبي صلى الله عليه وسلم إلا الدعوى، وجعل الدّين جنسيّـة لهم، بل لا يستحقّـها من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت الحرام، والتزم الحلال، واجتنب الحرام، مع الإخلاص الذي هو روح الإسلام، إلا بعد القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبالاعتصام بحبل الله، مع اتـقاء التـفرّق، والخلاف في الدّين! {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}؛ ومن ثم نبصر في مقدمة مقتضيات مكانة خير أمّـة؛ أن تقوم على صيانة الحياة من الشرّ والفساد، وأن تكون لديها القوة التي تمكّـنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي خير أمّـة أخرجت للناس، لا عن مجاملة أو محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. إنه النهوض بتكاليف الأمّـة الخيّـرة، بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب، وبكل ما في طريقها من أشواك، وإنه التعرّض للشرّ، والتحريض على الخير، وصيانة المجتمع من عوامل الفساد، وكل هذا متعب وشاق، ولكنه - كذلك - ضروري لإقامة المجتمع وصيانـته، ولتحقيق الصورة التي يحبّ الله عزّ وجلّ أن تكون عليها الحياة.
 ولابد من الإيـمان الصحيـح في حياة الأمّـة ليوضع الـميزان الصحيح للقيم، والتعريف الصحيـح للمعـروف والمنكر، فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي، فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل، ولابد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير والشر، وللفضيلة والرذيلة، وللمعروف والمنكر، يستـند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال.
 وهذا ما يحقّـقه الإيمان في حياة الأمّـة، بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه، وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون، ومن هذا التصوّر تنبثـق القواعد الأخلاقيّة، ومن الباعث على إرضاء الله والبعد عما لا يرضاه، ينـدفع الناس لتحقيق هذه القواعد، ومن سلطان الله في الضمائر، وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك.
 والله الموفق والمستعان.

تابع القراءة Résumé abuiyad

الأربعاء، 31 يوليو 2013

سيبقى نور الدعوة ساطعًا هازئًا بالظلام

0 التعليقات

لن يخمد صوت دعاة الإصلاح في هذه الأمة، مهما قست المحن، واشتدت الأزمات، ولسوف يقيض الله - تعالى - في كل زمان ومكان، مَن يحملون راية الدعوة، وينيرون مشاعلها، ويبذلون من أجل الحفاظ على مبادئها المُهَجَ والأرواح، غير مبالين بمصاعب الطريق، ولا عقبات المسير، سيمضون مستعلين بإيمانهم، معتزِّين بعقيدتهم، ساعين إلى غايتهم، لا تنحني لهم هامة، ولا تلين منهم قَناة، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويبلغون رسالات ربهم، يريدون وجهه، ولا يقصدون أحدًا سواه.

إنهم الفئة الظاهرة على الحق، الموعودة بالنصر والتمكين، والتسديد والفلاح؛ قال – تعالى -: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)).

وتاريخ الدعوة حافل بنماذجَ وعناوينَ من أتباع هذه الفئة وأعوانهم، جاؤوا - خلال مسيرتها - على قدر، فلفتوا الدنيا إلى نور ربها، وعدلوا ما اعوجَّ من سلوك أهلها، وأقاموا ما وَهِيَ من بنيان الفضيلة وصرح الأخلاق، وكانوا العقلَ الجديد الذي استنارت به الأمة، والرئة السليمة التي تنفست من خلالها.

وبذلك انتصر الخير في كثير من جوانب الحياة، وتنبَّهت الأمة إلى الخطر المحيط بها، والمخطط المدمر الذي أُحكم حولها، والأدوات التي أعدت لتنفيذه، ممن استغواهم الشيطان، وجذبهم بريق المال، واستذلهم وهمُ المنافعِ، فارتمَوا على الأبواب والعتبات، وقدموا دينهم، وأخلاقهم، وإرث أسلافهم قربانًا لكرسي، لا يلبث أن ينزع منهم، أو منصبٍ، عما قليل سيحول إلى غيرهم.

ولسنا بحاجة لإعمال ذهن، أو إجهاد فكر؛ لندرك كيف استطاع المخلصون من دعاة الإصلاح أن يُؤدوا واجبهم، وينصحوا لأمتهم، ويجنبوها المزالق والعثار.

نعم، لسنا بحاجة إلى شيء من ذلك، فواقعنا المعاصر خير شاهد على نجاح جهود المخلصين من الدعاة، وانتشار أفكارهم ومبادئهم، برغم قسوة الواقع حولهم، وتكالب الأعداء وتكاتفهم ضدهم، وبرغم استسلام الأمة لليل مظلم طويل، جثم فيه الاستعمار المادي والفكري على الصدور، فكمم الأفواه، وعطل الطاقات، وخلط المفاهيم، ووضع من الوسائل ما حسبه كفيلاً بدفن الأمة، ومسخ هُوِيَّتها، والقضاء عليها قضاء لا نهوض معه، ولا حياة بعده.

وكان أبرز وسائلهم المدمرة ما أوجدوه من تلك المذاهب والمدارس الفكرية المنحرفة في نشأتها، وسلوكها، وفَهْمها، وأصل عقيدتها، والتي انساق وراءها عددٌ كبير من أبناء الأمة بمختلف شرائحها وطبقاتها.

وهمْ بين ماكرٍ مضلٍّ، بصير بدرب الغَوَاية والضلال، يخطط لتقويض أركان هذا الدين، وتشويه جماله، وطمس معالمه، مندفعًا وراء أحقاد دفينة، وثارات موروثة، وبين مخدوعٍ ضعيف الفكر، قليل العلم، حائر بائر، لا يميز منكرًا من معروف.

وإنك واجدٌ بين هذين الصنفين طرازًا آخرَ، همُّه المصلحة والانتفاع، يمتطي متن كل موج؛ ليبلغ الشاطئ المقابل، حيث توزع الغنيمة، ويقسم الفيء، وما عليه بعد ذلك في أي وادٍ هلك الناس.

قدر الله غالب:
ولقد مضت سنة الله - تعالى - أن لا يذر المؤمنين على حالة تسوءُهم؛ حتى يميز الخبيث من الطيب، ثم يتولى أولياءه بالعناية والرعاية، والهداية والتسديد.

وتحققت سنة الله هذه في مطلع قرننا هذا - القرن الواحد والعشرين - فصَحَتِ الأمةُ على أصوات البررة من المخلصين من أبنائها، مبشرين ومنذرين، فجَأَها الصوتُ؛ بل أذهلها، فاستغربتْه بادئ ذي بدء، لقد بَعُد عهدُها بسماعه؛ حتى نسيته أو كادت، لكنها ما لبثت أن تيقظت منها المشاعرُ، وتنبهت الفطرة، وألقت القلوب السمعَ، فإذا الصوت صوتُها، وإذا المنادي ذاتُها، وإذا المطلب هو أمنيتها، فكيف لا تستجيب؟!

وبدأت المسيرة خلف الحادي الجديد هادئةً رتيبة، هي للضعف يومئذٍ أقرب منها للقوة، لكن الله - تعالى - شدَّ أزر الضعيف وقوَّاه، وبارك في القليل فكثره ونمَّاه، فغدت دعوة الإسلام في القرن العشرين صوتًا جديدًا، نابعًا من ضمير الأمة وعقيدتها، ارتفع حين خفتت الأصوات، وصدع بالحق عندما سكتت الألسنة، وأحيا فريضة الجهاد بعدما أُغمدت السيوف وأُلقيت النصال، وقدم البذل والتضحيات في زمن الشح والانطواء، وجدد الأمل بالعزة والنصر، وقد سئم الناس، وانعقدت القلوب على اليأس والقنوط، فليس ثمة غرابة أن تلتف الصفوة من أبناء الأمة حول باعث الأمل، ومجدد الرجاء.

ثمرة الإخلاص: 
ومضى الركب راشدًا، يُحْيي معالم الدين، ويبشر بإشراقة مستقبله، ويدعو إلى ظلال كتابه، وعدالة مبادئه.

ولم يمضِ غيرُ يسير حتى غدا للدعوة: "في الإرشاد لسان، وفي الاقتصاد يدٌ، وفي الجهاد سلاح، وفي السياسة رأي، وفي التربية والتعليم أثر، وغدا لها في كل بلد من البلدان أتباع، وفي كل قطر من الأقطار أشياع، وما يقظة الوعي العام في حواضر العالم وقراه إلا شعاع من هذه الروح، بدأ يطرح ثماره، ويؤتي أُكُلَه، وسيكون له نبأ بعد حين".

واجب أبناء الدعوة:
إنه لَتركةٌ مباركة، وإرث عظيم هذا الذي خلَّفه رجال الرعيل الأول، بعد سعي ناصب، وسهر دائم، وصبر على البلاء في ذات الله.

ولن يقوى على صونه وحفظه، إلا مَن تحلَّى بأخلاقهم، واهتدى بفعالهم، فصبر على ما صبروا، وآثر ما آثروا، وحرص أن يتم البناء على النهج القويم، والخطة المثلى، بعيدًا عن جلبة الأصوات، وبهرجة الأضواء، وإبراز الذات، فلن يثمر عمل بغير الإخلاص وحسن النية.


تابع القراءة Résumé abuiyad

حراء شمس متجددة

0 التعليقات

 ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1].
 
مع كل صباح تَزحَف أشعة الشمس ببُطءٍ وهدوء مبدِّدةً بَقايا الليل المظلم، مُعلنة عن مَولد نهار جديد.

وأكثر الناس لا يَملكون الوقت، وليس لديهم الباعث ليُراقبوا زحْف أشعة الشمس، وهي تكتسح رُكام السحب وجبال الغيوم؛ لأنهم يعلمون أن الشمس لا بدَّ أن تَنتصر، وأن النور لا محالة قادم، ولأنهم - كذلك - ألِفوا تداولَ الليل والنهار؛ خضوعًا للسنة الكونية في كل يوم.

وهكذا تمضي سنة التداول في الزمان - دون فعْلٍ إنساني - فيعقب الليل النهار، ويعقب النهار الليل، وهكذا الأمر في الظلام والنور، والشتاء والربيع.

وقد يطول ليلُ الشتاء، لكن مجيء الربيع حتميةٌ كونية، وقد تسود جحافل الظلام في غياب "النور"، لكنَّ سنة الله الكونية لا تتخلف، فسَرعان ما يعود "النور" إلى الظهور!

وهنا يظهر الفيصل بين السُّنتين "الطبيعية الكونية" و"الاجتماعية الحضارية"، فعلى الرغم من وحدة القانون، فإن الفعل الإنساني له دورُه المؤثِّر في سُنة التداول الاجتماعية الحضارية.

الربيع الحضاري:
ففي حالة وجود الفعالية الإنسانية، والالتحام الإنساني الواعي بالسنة الطبيعية، والالتزام بثوابت الوحي وتوجيهاته العليا، في هذه الحالة يَنجح الإنسان في إطالة فترة "الربيع الحضاري"، ربيع الازدهار والعطاء، وتمتدُّ بالتالي مساحةُ النور عبْر الخريطة الإنسانية.

وعلى العكس، فعندما تُسيطر السكونية السلبية، ويُصبح الإنسان مجرد جزءٍ من الزمان، يمتد الشتاء بقَسوته وظلامه، وتنكمِش مساحة النور، وتَذبُل سريعًا أزهار الربيع!

وهنا يتألق دور المؤمنين الفاعلين من خريجي مدرسة "حراء"، التي هبَطت عليها أشعة شمس القرآن الأولى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1].

إنهم مطالَبون بالتغيير والتعمير والحركة باسم الله، ومطالَبون برفْض الجمود الذي يَجعلهم كأنهم بعض الزمان وخارج الحضارة والتاريخ، ينتظرون - وهم قاعدون عاجزون - دورة السُّنة الطبيعية في التداول، دون أن يعملوا على تحقيق التكامل بينها وبين السنة الاجتماعية: سُنة التغيير الداخلي انطلاقًا للتغيير الخارجي؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].

إنهم - لو كانوا مؤمنين حقًّا - أسمى من أن يصبحوا جزءًا من الصيرورة والزمان، إنهم في حقيقتهم محرِّكو قطار التاريخ الحضاري، وقادة "النور".

وهم القادرون قبل غيرهم على حمْل مشاعل الوحي وأضواء العقل، وبالتالي هم الذين يستحقُّون "الاصطفاء"؛ ليحقِّقوا "الشهادة" على الناس، ويبْلغوا مرتبة "العباد الصالحين الوارثين للأرض"؛ ﴿ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].

وحتى لو عثَرت بهم أحجار عبر مسيرتهم في التاريخ، فهم - مع ذلك - المؤهَّلون للأَوْبة والبعث والإقلاع، مهما تطُل غيبتُهم عن مسرح الحضارة والتاريخ.

إن لهم معالِمَ يهتدون بها، ولهم ثوابتَ من الوحي - لا يأتيها الباطل - تأخذ بأيديهم إلى التي هي أقوم.

لقد غاب المسلمون حضاريًّا منذ عدة قرون، فتقدم الأوربيون - في الفراغ - وقادوا الدنيا بالعقل وحده، ونظروا بعين المسيح الدجال، وكالوا بمكاييله، وقاسوا الأمور بمعاييره المزدوجة، وزعموا أنَّ لهم "جنَّةً" هي حضارتهم المادية الشَّيئية، ولهم "جهنم" اخترعوا لها صورًا من الدمار!

وقد قدَّموا - وهذا لا يُنكر - خدمات علمية، لكنهم أتعسوا الإنسان بالدنيوية والعنصرية والحروب لأتفه الأسباب، وباختراع قوانين الصدام ونظرياته المتهافتة (!)، وتُوشِك البشرية التي حفروا لها القبور - حسْب مقولة "رجاء جارودي" - أن تنْتحر انتحارًا جماعيًّا عولميًّا، وتَفقد ذاتها ودنياها وآخرتها.

فلا بدَّ أن يستيقظ المسلمون، وأن ينفُضوا الغبار عن أجسادهم وعقولهم، وأن يخرجوا من الكهف، متلطِّفين في خروجهم، حُداةً على آمال الإنسانية، وحُماةً لها من الانتحار والدمار، بالحكمة والقدوة والحوار.

ولا بدَّ أن يعود معنى الصلة بين السماء والأرض، ذلك الذي تألق في "حراء" ذات يوم من سنة 610م، معلنًا عن ميلاد جديد للإنسانية، فما أحوج إنسانيَّتنا المعاصرة أن تُولَد من جديد! وأن تقرأ من جديد ﴿ بِاسْمِ رَبِك ﴾، لا باسم المادة أو الصراع أو العلم الذي لا ينفع، والذي لا يخشى علماؤه الله!

لقد عاش المسلمون أكثر من عشرة قرون منذ هبَطت عليهم ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، سادة الحضارة - كما يقول أكبر مؤرخي القرن العشرين "ول ديورانت" - وبهم بدأت الحضارةُ دورةً إنسانية جديدة تخلَّصت فيها من ظلامٍ استمرَّ عشرة قرون، هي "القرون الوسطى" كما يقولون، بل تخلصت من ظلام هيمَن على الحضارة الإنسانية عشرات القرون قبل ظهور العصر القرآني، في ظل حضارات وثنيَّة وأسطورية واستعلائية، لم تَقدر الله حق قدره إلا في القليل النادر من الزمان، بينما اخترعت مئات الأصنام والأوثان، وخضَعت لها خضوع العبيد فاقدي الوعي والإحساس.

وعندما نزلت: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1] في حراء، كانت شمسًا جديدةً تُطِلُّ على الكون، جامعةً في نسيجٍ واحد بين قراءة الوحي والعقل والكون، فتحَقَّق لأول مرة في تاريخ الحضارات رسم خريطةٍ تتناغم فيها الربَّانية والإنسانية على امتداد إشعاعات الوعي الإنساني.

وما كان ممكنًا قبل هذا الحدث الفارق أن تكون هناك حضارة إنسانية تتصل فيها الأرض بالسماء، من خلال وسائل تتحدَّد فيها العلاقة الواضحة بين "الله" المعبود الخالق وبين "الإنسان" العابد المخلوق.

لقد كان "الكون" قبل هذا الحدث الذي وقَع في "حراء" معبودًا يخشاه الإنسان، ويتقرَّب إليه بشتَّى القرابين ووسائل التعبير الدالة على الخضوع والخوف والعبادة، فجاء "العصر القرآني" يضع الكون في مكانه الصحيح كونًا مسخَّرًا للإنسان؛ ليستخدمه الإنسان لتحقيق العبودية لله، وتعمير الأرض باسم الله، ولتسبيح الله، وبالتالي أصبح الكون الذي كان في الوعي الإنساني الوثني معبودًا "عابدًا"، خاضعًا للبحث والاكتشاف والتسخير، ورجع الكون في الوعي الإنساني إلى حجمه الصحيح؛ مفعولاً به، وليس فاعلاً، مطبعةً لا طابعًا، نقْشًا لا نقَّاشًا، متحفًا ومعرضًا لإظهار تجلِّيات الخالق العظيم الذي استخلف الإنسان وعلَّمه الأسماء كلها، وزوَّده بالوحي والعقل والإرادة.

الإسلام والتعامل مع الكون:
وما كان ممكنًا قبل هذا التحول الذي قدَّمه الإسلام في التعامل مع الكون، أن تكون هناك حضارة إسلامية تمثل منعطفًا جديدًا في تاريخ التمدُّن الإنساني، وما كان ممكنًا - كذلك - أن تكون هناك حضارة أوروبية أو رُقيٌّ إنساني، بينما الكون معطَّل عن التسخير، يحتلُّ مكانةً "مقلوبة"، فتتعطَّل مع وضعه المقلوب ملكات الإنسان، وبالتالي لا يجد الإنسان عالم "الآفاق" الذي يُحقِّق من خلاله شروط الاستخلاف.

لقد نجح المسلمون "السلف" خلال مدة تزيد على عشرة قرون - كما ذكرنا - في أن يقدموا حضارةً معتدلة الموازين والقيم، تتكامل فيها ثوابت الوحي مع حركة العقل مع الرؤية الرشيدة للكون والحياة.

فلما اختلَّ الميزان في أيديهم وفقَدوا مؤهلات القيادة الحضارية، وخَلَفَ من بعدهم خلفٌ أضاعوا الصلاة واتَّبعوا الشهوات، وأهملوا العلم والعمل، وفقه السنة الكونية والاجتماعية - أخذ منهم الأوربيون القيادة، فتحرَّكوا بالعقل وحده، مؤلِّهين "المصلحة" و"المادية" في إطار الفرد والمذهب الفردي طورًا، وفي إطار الجماعة والمذهب الجماعي طورًا آخر، وكانت الآخرةُ والروحُ والجوانبُ الدنيوية بعيدةً كل البعد عن التنظير والتخطيط والتطبيق هنا وهناك، فعادت سفينة البشرية تَجنَح إلى الغرق من جديد، وسيطرت "القوة"، ومع القوة "الظلم"، ومع الظلم "ازدواج المعايير"، ومع اختلال الموازين سيطرت "العنْصرية" و"الأنانية"، فارتفَعت بالتالي رايات الصدام والشقاء، وانخَفضت رايات التعارف والسعادة.

وهنا - وعند هذا المَحاط - لم يَبق إلا أن يعود المسلمون إلى القيادة من جديد، متجاوزين عصر الانحطاط، دخولاً في دورة حضارية أخرى، ووصولاً بعون الله إلى عصر الشهادة على الناس، والخيرية، والقيادة الحضارية للإنسانية!

وكما خرج "النور" من "حراء" عندما هبط الوحي، معلنًا بداية العصر القرآني، "عصر تكامل القراءات السماوية والكونية والعقلية"، كذلك ينبغي أن يتمثل المسلمون في دورتهم الحضارية الجديدة معاني البعث القائم على القراءات المتناغمة المتكاملة السابقة، بلا تعارضٍ أو خللٍ!

شمس القرآن:
ومن هنا ينبغي النظر إلى شمس القرآن بعين جديدة "أصيلةٍ معاصرةٍ"، لا تُهمل الماضي ولا تتجاهل المستقبل، وفي هذا المقام قد نجد بين أيدينا عددًا رائعًا من الرُّؤى التي لا يمكن الغضُّ من قيمتها، ولا الانتقاص من قدر أصحابها، هؤلاء الأعلام الذين حاوَلوا بعْث الأمة من خلال الحياة في ظلال القرآن والحياة في فقه السيرة.

بيْد أننا نرى أن لـ"رسائل النور"؛ لبديع الزمان سعيد النورسي - ريادةً خاصة، كما نرى للمشروع الفكري السائر على درب "النورسي"، الذي يقدمه بآلياتٍ معاصرة عملاقة الداعية المصلح الشيخ "فتح الله كولن"، ممثلاً في "النور الخالد"، وفي نحو خمسين كتابًا معه - ريادةً خاصة كذلك.

والمشروعان لا ينفصلان، وكلاهما قدَّم ما يستطيع في ظل الظروف المتاحة، وهما يصبَّان في خندق واحد، ويتَّجهان إلى غاية واحدة.

إنها غاية إنقاذ الإنسانية والمسلمين، من خلال "القرآن" ومن خلال تطبيق النبي الكريم للقرآن على الواقع، وهو النبي الكريم الذي كان "قرآنًا" يمشي على الأرض، والذي كان "خلقه القرآن" - قولاً، وفعلاً، وتقريرًا - بعيدًا عن "المثالية" العاجزة عن التطبيق، والتي حلَم بها الفلاسفة الطوباويون، وأيضًا ارتفاعًا بمستوى "الواقعية" التي يَهبِط بها إلى "الحيوانية" الواقعيون.

لقد قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - واقعيةً ترتفع إلى قريب من شمس "النور الخالد"، شمس المثالية الإنسانية التي لا يمكن أن يصنعها إلا كتاب الله - فكرًا، وتربيةً، وتنظيرًا - وسيرة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - فعلاً، وحركةً، وتطبيقًا.

وبالفكر القرآني والتطبيق النبوي تتحقق الحضارة الإنسانية التي انطلقت من "حراء"، بعد أن هبط بها جبريل - عليه السلام - من السماء؛ ﴿ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35].

وعلى المسلمين استئنافها اليوم مُستعينين بالله، وما ذلك على الله ببعيد!


تابع القراءة Résumé abuiyad

الثلاثاء، 30 يوليو 2013

العقل وحرية التفكير في الإسلام

0 التعليقات



في أي محكمة هناك محاميانِ؛ أحدهما يدافع عن الحق، والثاني عن الباطل، وكلاهما يستخدم العقل!

من المستهجَن القول:
إن العقل تابع دومًا، هل يُعقل حقًّا أن يكون العقل ظلاًّ تابعًا على الدوام لجهة أخرى؟ وما هي تلك الجهة؟ أم أنها جهات؟

كتب "جودت سعيد" مرة: "إن العقل ليس آلة؛ وإنما وظيفة"، ولم يَرِد العقل في القرآن بصيغة الاسم؛ وإنما ورد بصيغة الفعل، مثل (يعقلون، عَقَلوه، نَعقِل، يَعقِلها)، والعقل مثل اللغة: مهارة يتعلَّمها الإنسان، واللغة تتبع متكلِّمها دومًا، فمن الممكن أن تحملَ العلم في ألفاظها أو الجهل، ومن الممكن أن تدافعَ عن المظلومين في العالَم، أو تقتل بحروفها المزيدَ من الأبرياء.

وعلى غرار ذلك، فالعقل يمكن استخدامُه في الحق أو في الشر، هذا يبقى على المنهج الذي تم استخدام العقل داخله، وحريةُ العقل من حرية المنهج، والقرآنُ الكريم يتحدَّث عن سبعة مناهج تستعمل العقل، وهي:
1- الهوى: ﴿ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الروم: 29]، فمن الممكن استخدام العقل في تبريرِ أهواء النفس؛ مثلاً قد نجد مثقفًا يُناظِر في الدفاع عن الحكم الشمولي؛ ليتقلَّد أحد المناصب في دولته، أو بخيلاً يدافع عن أهمية جمع النقود، أو أستاذًا جامعيًّا يغضُّ النظر عن أخطاء الإجابة في ورقة طالبةٍ جميلة، ويتشدَّد مع الأخطاء في ورقة أخرى.

2- الظن: ﴿ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ﴾ [النجم: 28]، يمكن اعتبار الظنون كالفرضيات البحثية؛ أي: إنها معلومة لم تثبت صحتها علميًّا؛ كنظرية "داروين" في نشوء الخلق، أو أنها في طور التأكُّد من صحتها؛ كفرضية وجود مخلوقات على كواكب أخرى، أو أنها كانت فرضية، لكن تمَّ التثبُّت من صحتها؛ كفرضية وجود الماء في المريخ، وهنالك من العقول ما يتَّبع الظنَّ في حالتيه السلبيتين؛ أي: قبل أن تصبح الفرضية علمًا.

3- الآبائية: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23]، والآبائية صنفان:
آبائية سلبية، وفيها يتَّبع العقلُ كل ما قاله، أو دوَّنه، أو ورَّثه الآباءُ والأجداد، دون مراجعة علمية لصحة ما قالوه، ودون تمحيص واختبار لتَرِكَة الآباء؛ لتثبيت صوابهم، وتصحيح خطأهم.

وآبائية إيجابية، وفيها يتَّبع العقل ما صحَّ فقط عن الآباء، وما ثبت بالتجرِبة أنه نافع.

والثقافة العربية الراهنة تشهد حضورًا للمنهجينِ، فهناك مَن يتعامل مع التراث وَفْق الآبائية السلبية، فيجعلون الماضي سيِّدَ الحاضر، وآخرون يقرؤون التراث فيمتصُّون حسناته، وينأَون بأنفسهم عن سيئاته.

4- اتِّباع السادة وأصحاب السلطة والنفوذ: ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ﴾ [الأحزاب: 67]، في هذا المنهج يتمُّ إقصاء العقل من قِبَل الأتباع، وتوكيل السادة برسم مصيرهم كما يشاؤون، وبالتفكير بدلاً عنهم، واتِّخاذ القرار نيابةً عنهم، وهذا المنهج مطبَّق بشكل واسعٍ في العالَم العربي، فالشعوب العربية فوَّضتْ أمْرَها لحكَّامها وأنظمتِها؛ لتصممَ عنها مستقبلها، وتقودها إلى الوجهة التي تراها صوابًا، وانسحبت من مسؤولياتها في اتخاذ القرارات المصيرية.

5- اتِّباع رجال الدين: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 31]، وهنا يتنازلُ الأتباع عن حرِّيتهم العقلية، وعن تفكيرهم؛ لمصلحة عقل المؤسَّسة الدينية، وهذا المنهج ساد بقوَّة في أوروبا خلال قرونها الوسطى، إلى أن تمَّ التنبُّه لأخطاره ومساوئه على مستقبل الحياة في أوروبا، فتم إلغاؤه من الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية.

6- اتِّباع الأكثرية: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [غافر: 57]، قالت البشر جميعًا: إن الشمس تدور حول الأرض، وقال رجل واحد العكس، وثَبَت أنَّ الأكثرية المُطلَقة والساحقة أخطأت، والأقلية الضئيلة والمعدومة أصابت؛ لذا فالكثرة ليست دليلاً على الصحَّة والصواب، واتباع العقل لرأي الأكثرية مصادَرة لحرية العقل، وقد يُسبِّب ضياعًا للحق.

7- العلم: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، هذا هو المنهج الوحيد الذي يحفظ حرية العقل، ويحميه من أي سلطة خارجية تُحَاول توظيف العقل لمصالحها، وهو المنهج الوحيد الذي لا يخطئ العقل فيه؛ لأنه يتجرد عن الذات، ويتَّبع قوانين ثبت صحتُها بطرق علمية بحتة، ويرفض العقل في هذا المنهج الاعترافَ بنتائج استندتْ إلى فرضيات لم تَثبُت صحتها، ونتائج انطلقت من مسلَّمات ليس عليها برهان.

وكل التطوُّر الذي حقَّقه الإنسان، والإنجازات التي صنعها العقل البشري، يعود فضله إلى هذا المنهج دون غيره، ويعاني هذا المنهج في مجال العلوم الإنسانية من ظاهرة تحرُّش الأهواء والظنون والمصالح به، في محاولة جديدة لاستعادة التحكم بالعقل، وتوظيفه لخدمة المصالح المنحرفة، وامتلأت المكتبات بالأبحاث التي تدَّعي العلمية والموضوعية، في حين أنها لا تَعْدُو كونها محاولات تشويش وتضليل للعقل البشري


تابع القراءة Résumé abuiyad

روعة التشريع في تحكير الوقف

0 التعليقات
إن لفظة التحكير غالبًا ما يصاحبها اشمئزاز في النفس عند سماعها، وهناك من الأحاديث النبويَّة الشريفة ما يُجرِّم بل يُحرم تحكير السلع والخدمات التي يحتاجها الناس؛ بيد أن عبقريَّة الفقيه المسلم نظرت إلى الأمر بطرق مغايرة؛ حيث رأت أن ثمة حالات يجوز فيها التحكير بل ويُستحبُّ لأجل المصالح المترتِّبَة!

فالحكر عقد إجارة يُقصد به إبقاء الأرض الموقوفة في يد المستأجر بقصد البناء عليها أو غرسها، أو لأي غرض آخر، على نفقة المستأجر بحيث لا يضرُّ بالوقف؛ شريطة أن يدفع المستأجر أجرًا محدودًا، يتَّفِق عليه دون تحديد مدَّة الإجارة[1].
واللافت أن الفقهاء أجازوا تحكير الأرض الموقوفة إذا ضعف عائدها، ولم يُوجَدْ مَنْ يرغب في استئجارها لإصلاحها، فإنه يجوز حينئذ تحكيرها، وقد استند الفقهاء إلى إجازة التحكير على القاعدة الفقهيَّة التي تقول: تنزل الحاجة منزلة الضرورة. وهنا نلاحظ روعة الفقه الإسلامي؛ حيث لم يَقِفْ جامدًا أمام التغيُّرات التي من الممكن أن تطرأ على الوقف، بل بحث عن المصلحة الشرعيَّة؛ وهي استمرار الوقف في عمله، حتى لو ضعفت غلَّة الأرض، أو فسدت بصورة من الصور، فكان هذا التحكير الذي يُشَجِّع المستأجر على إصلاح الأرض أو العقار؛ لكي تتحقَّق الفائدة للجميع؛ لذلك لا يجوز قَبُول تحكير الوقف إلا إذا ارتبط بتحقيقه مصلحة للوقف، وكانت هناك ضرورة لذلك بأن هُدم العقار الموقوف وتعطَّل الانتفاع به، ولم يكن للوقف ريع لإعماره، واستحال إبداله، فحينئذٍ جوَّز بعض الفقهاء تحكير الوقف[2].
وقد يحصل التحكير بإذن الناظر للمستأجر بالبناء أو الغرس أو أي غرض آخر على وجه البقاء والقرار، وذلك بعد إجراء عقد الإجارة وخلال المدَّة المبيَّنَة بالعقد، وتبقى الأرض بيد المستأجر بعد انتهاء مدَّة الإجارة؛ ما دام منتظمًا على دفع أجر المِثْلِ، أي أن المدَّة مفتوحة غير محدَّدة، وهذا ما ذهب إليه فقهاء الحنفيَّة المتأخِّرُون، ولا يصحُّ الاحتكار إلا إذا كان الحكر بأجرة المثل، لا أقلَّ منه على تقدير أن الأرض الموقوفة خالية من البناء -وهو ما يُطلق عليه المسقفات- والغراس -وهو ما يُطلق عليه المستغلات- الذي أحدثه المستأجر (المحتكر) فيها، ولا يجوز أن تبقى الأجرة المتَّفَق عليها ثابتة على حال واحدة، بل تزيد وتنقص حسب الزمان والمكان والعوامل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المحيطة.
ولم ينسَ الفقهاء قضيَّة زيادة أسعار الإيجار زيادة فاحشة، فإذا زادت أجرة المِثْلِ زيادة فاحشة، فإن الفقهاء يُفَرِّقُون بين نوعين:
[1] إذا كانت الزيادة بسبب العمارة أو البناء الذي أقامه المحتكر في الأرض فلا تلزمه الزيادة.
[2] إذا كانت الزيادة بسبب ارتفاع قيمة الأرض نفسها، أو لكثرة رغبة الناس فيها، فإن الزيادة تلزمه إتمامًا لأجر المثل، فإذا وافق على دفع الزيادة تبقى الأرض معه أو مع ورثته، وإن رفض الزيادة أُخِذَت الأرض منه وما عليها من إنشاءات وإحداثات.
وهنا -أيضًا- صورة راقية من صور المرونة الفقهيَّة؛ حيث لم يضع الفقهاء قانونًا جامدًا لكل المتغيِّرات، بل بحثوا عن المصلحة الشرعيَّة، ولم يلجأوا إلى إهدار مصلحة المستأجر أو الموقوف عليهم، إنما قدَّروا الأمر قدره، فإذا كانت الزيادة في الأجر بسبب إصلاحات المستأجر فلا تلزمه هذه الزيادة؛ لأنه السبب الرئيس في حدوثها، ولو كانت الزيادة بسبب ارتفاع قيمة الأرض فهي حقُّ الموقوف عليهم، ولا يجب أن تُهْدَرَ.

ويجب على القاضي أن يُشرف على تحكير الوقف -سواء كان عقارًا أو أرضًا- إشرافًا كاملاً؛ فإن رأى أن المصلحة لن تتحقَّق إلاَّ بتحكير الأرض الموقوفة أو العقار الموقوف؛ جاز له ذلك، ويجب عليه الاحتراز من أفعال المستأجرين؛ فله أن يُفسخ العقد إن رأى أي ضرر قد يُسبِّبَه المستأجر في الوقف؛ كإتلافه، أو نهبه، أو ادِّعَائه أنه له ولورثته، وإنه مهما طالت مدَّة الإجارة فللقاضي أن يسترجع الوقف متى رأى أن ذلك في مصلحة العين الموقوفة والمستحقين[3].
العدول عن رأي الأستاذ
إنَّ العدول إلى الحقِّ صفة إسلاميَّة أصيلة؛ فلقد كان من الطبيعي أن يستمسك تلميذ أبي حنيفة أبو يوسف ببطلان الوقف ومنعه كأستاذه، لكنه "لَمَّا حجَّ مع الخليفة هارون الرشيد  فرأى وقوف الصحابة رضي الله عنهم بـ المدينة ونواحيها؛ رجع فأفتى بلزوم الوقف"[4].
ولم يكن رجوع أبي يوسف عن رأي إمامه إلا لكونه رأى إجماع الصحابة على لزوم الوقف، لكن أبا يوسف أضاف مع الدليل الإجماعي الذي عاينه المصلحةَ التي تَمَثَّلَتْ في مصلحة المعاد؛ إذ الوقف صدقة جارية ينتفع بها صاحبها بعد مماته، وكذلك مصلحة المعاش، "كبناء الخانات والرِّباطات واتخاذ المقابر"[5].
ولعلَّ الذي جعل أبا حنيفة يقول ببطلان الوقف ومنعه، افتقاره للأدلَّة التي أيَّدت لزوم الوقف، وهو ما جعل تلميذه أبا يوسف يقول عند رجوعه عن رأي شيخه في هذه المسألة: "لو بلغ أبا حنيفة لقال به"[6]. أي لو علم أبو حنيفة ما عَلِمَه أبو يوسف من الأدلَّة الشرعيَّة التي افتقدها من قبل، لرجع إلى القول بجواز الوقف، وهذا الأمر من الأدب الظاهر مع الإمام أبي حنيفة رحمه الله رغم مماته؛ ثم إنه تواضع أمام الأدلَّة التي عاينها، ومن ثم انصياعه لها.
ومن ثَمَّ وجدنا المتأخِّرين من فقهاء الحنفيَّة يُجِيزُون الوقف، ويُؤَوِّلون رأي أبي حنيفة السابق؛ وذلك لِمَا رَأَوْا من الأدلَّة الصريحة في السُّنَّة النبويَّة، وكذا الإجماع المتواتر على مرِّ السنين من الفقهاء أصحاب المذاهب المختلفة، فرأينا البَابَرْتِيَّ يقول عن الوقف: "والأصح أنه جائز عنده -أي عند أبي حنيفة- إلاَّ أنه غير لازم بمنزلة العارية، وعندهما -أي أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني- حَبْسُ العين على حُكْمِ مِلْكِ الله تعالى؛ فيزول مِلْكُ الواقف عنه إلى الله تعالى على وجهٍ تعود منفعته إلى العباد، فيلزمُ ولا يُباع ولا يُوهَب ولا يورث"[7].
بل صرَّح بعض فقهاء الحنفيَّة بلزوم الوقف دون تأويل لِمَا قاله الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ومن جملة هؤلاء أَبو بكر بن مسعود الكاشاني[8] الذي قال: "لا خلاف بين العلماء في جواز الوقف في حقِّ وجوبِ التَّصَدُّق بالفرع ما دام الوقف حيًّا، حتى إنَّ مَنْ وقف داره أو أرضه يلزمه التصدُّق بِغَلَّةِ الدار والأرض، ويكون ذلك بمنزلة النذر بالتَّصَدُّق بالغَلَّة"[9].
ومن الأدلَّة التي ذكرها إبراهيم بن موسى الطرابلسي[10]، والتي دلَّلَتْ على مشروعيَّة الوقف وجوازه، ما ذكره عن ابن كعب القُرظي[11]، بقوله: "كانت الحبس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة حوائط في المدينة... وقد حبس المسلمون بعده على أولادهم وأولاد أولادهم، وقد حبس أبو بكر رضي الله عنه رباعًا له بمكة وتركها، فلا نعلم أنها وُرِثَتْ عنه، ولكن يسكنها مَنْ حَضَر من وَلَدِ ولده ونسله بمكة، ولم يتوارثوها، فإمَّا أن تكون صدقة موقوفة، أو تركوها على ما تركها أبو بكر رضي الله عنه ، وكرهوا مخالفة فعله فيها، وهذا عندنا شبيهٌ بالوقف، وهي مشهورة بمكة"[12].
ولم يكن أبو يوسف رحمه الله الذي انفرد في تاريخ التشريع الإسلامي بمخالفة رأي شيخه أبي حنيفة رحمه الله؛ فالاختلافات الفقهيَّة أو بالأحرى الاجتهادات تكاد لا تُحصى في المؤلفات الفقهيَّة المتنوِّعة؛ مما يُؤَكِّد على المرونة الرائعة التي اتصفت بها الحضارة الإسلامية في جانب الفكر والتنظير، فضلاً عن التشريع نفسه، فكما خالف أبو يوسف أبا حنيفة في مشروعيَّة الأوقاف ولزومها، فإننا نجد الإمام ابن القيم[13] رحمه الله يخالف رأي شيخه وأستاذه ابن تيمية رحمه الله في مسألة تأجير الوقف لمدَّة طويلة على ما مرَّ بنا في تأجير الوقف؛ فقد رأى ابن القيم أن ذلك قد يخالف شروط الواقف، ويمنع تحقق المصلحة المرجوَّة من الوقف للمستحِقِّين، فقال: "ومن الحيل الباطلة: تحايلهم على إيجار الوقف مائة سنة مثلاً، وقد شرط الواقف ألاَّ يُؤَجَّر أكثر من سنتين أو ثلاثٍ؛ فيؤجّره المدَّة الطويلة في عقود متفرِّقة في مجلس واحد، وهذه الحيلة باطلة قطعًا، فإنه إنما قصد بذلك دفع المفاسد المترتِّبَة على طول مدَّة الإجارة، فإنها مفاسد كثيرة جدًّا، وكم قد مُلِكَ من الوقوف بهذه الطرق وخرج عن الوقفيَّة بطول المدَّة واستيلاء المستأجر فيها على الوقف هو وذريته وورثته سنين بعد سنين! وكم فات البطون اللواحق (الأجيال اللاحقة) من منفعة الوقف بالإيجار الطويل! وكم أُجّر الوقف بدون إجارة مِثْلِهِ لطول المدَّة وقبض الأجرة! وكم زادت أجرة الأرض أو العقار أضعاف ما كانت، ولم يتمكَّن الموقوف عليه من استيفائها! وبالجملة فمفاسد هذه الإجارة تفوت العدَّ، والواقف إنما قصد دفعها، وخشي منها بالإجارة الطويلة، فصرَّح بأنه لا يؤجّر أكثر من تلك المدَّة التي شرطها، فإيجاره أكثر منها -سواء كان في عقد أم عقود- مُخَالَفَةٌ صريحة لشرطه، مع ما فيها من المفسدة بل المفاسد العظيمة، ويا لله العجب! هل تزول هذه المفاسد بتعدُّد العقود في مجلس واحد؟! وأي غرض للعاقل أن يمنع الإجارة لأكثر من تلك المدَّة ثم يُجَوِّزها في ساعة واحدة في عقود متفرِّقة؟! وإذا أجَّره في عقود متفرِّقة أكثر من ثلاث سنين، أيصحُّ أن يقال: وَفَّى بشرط الواقف ولم يخالفه؟ هذا مِنْ أَبطلِ الباطل وأقبح الحيل، وهو مخالف لشرط الواقف ومصلحة الموقوف عليه"[14].
إن هذا الملمح الرائع الذي نراه من مخالفة التلميذ لرأي أستاذه، ما هو إلا دليل على عظمة فقهاء المسلمين، ومن ثَمَّ روعة التشريع الإسلامي؛ فكلٌّ من أبي يوسف وابن القيم -رحمهما الله- لم يخالف شيخه لمجرَّد الخلاف؛ حتى يُشار إليه بالبنان ويُقال: لقد خالف شيخه. لكنهما رأَيَا أن مصالح الشريعة الغراء مُقَدَّمة على الانصياع لرأي الشيخ مهما كان الأمر؛ كما أنه يُؤَكِّد على حُرّية الفكر، وعدم التقيُّد أو الجمود على رأي مُعَيَّنٍ كما هو الحال عند كثير من المسلمين اليوم!


تابع القراءة Résumé abuiyad

الاثنين، 29 يوليو 2013

طلب الحق

0 التعليقات
 
إن المسلم الصادق ينشد الحقيقة ويفر من الخديعة ، همّه بلوغ الحق سواء على يده أو على يد محاوره فالحكمة ضالته .

وقد انتقدت امرأة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في مسألة تحديد المهور وهو في خطبته على ملأ من الناس، فقال : أصابت امرأة وأخطأ عمر فحفظ التاريخ روعة ذلك الحدث لعمر _ رضي الله عنه – ونُسيت بل حتى لم يذكر المؤرخون اسم تلك المرأة التي استطاعت أن تصوب قرار الخليفة !!

قال الإمام الشافعي :
" ما كلمت أحداً قط إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه ".

وقال أبو حامد الغزالي:
" أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه،ويرى رفيقه معيناً لا خصماً،ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق".

ومن طلب الحق أن تضع نفسك مكان محاورك وتبحث في الأسباب المحتملة لحيدته عن الحق .

ولا نرفض الحق إن جاءنا من غير المسلم حتى لو كان في أمر ديننا فما بالك إن جاءنا من إخواننا في أمور دنيانا، فعن قتيلة بنت صيفي الجهينية قال : أتى حبر من أحبار اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، نعم القوم أنتم ، لولا أنكم تشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله وما ذاك ؟! " قال : تقولون إذا حلفتم والكعبة . قالت : فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم قال : " إنه قد قال ، فمن حلف فليحلف برب الكعبة " قال : يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً ، قال صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ، وما ذاك ؟! قال تقولون ما شاء الله وشئت . قالت فأمهل رسول الله صلى الله شيئاً ثم قال : " إنه قد قال ، فمن قال : ما شاء الله فليفصل بينهما ثم شئت ".

ومما يبتلى به بعض الناس حب الحديث لحاجة وبدون حاجة ، وشهوة السيطرة على المجالس ، وإظهار البراعة والثقافة ، وانتزاع الإعجاب وانتظار الثناء من الآخرين ، وهذا ولا شك مما يحبط أعمالهم وقلما يجدون به القبول عند الناس.

قال الشاعر أحمد شوقي :
إذا رأيت الهوى في أمة حكماً ** فأحكم هنالك أن العقل قد ذهبا

ولذلك حبذا لو راجع الدعاة إلى الله أنفسهم من وقت لآخر ، لأن وظيفتهم التي شرفهم الله بها تعتمد في أصلها على الحوار . ولقد فطن لذلك عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – بقوله : " والذي لا إله غيره ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان " .

كما يجب أن نتذكر أن هوى النفس لا يأتي عرياناً بل مزخرفاً بألفاظ النية الخالصة : " إحقاقاً للحق أقول " .. " انتصاراً للأمة " .. ثم يندس هواه بعد ذلك من حيث يعلم أو لا يعلم .

ولذلك ينبغي للمحاور أن يقف مع نفسه قبل كل حوار وقفتين :
• هل نيتي خالصة لله في هذا الحوار .

فإن غلب على ظنه أن نيته خالصة ، وقف وقفته الثانية :
• هل هناك فائدة ترجى من هذا الحوار ؟ أم لعله يثير فتنة ، أو مدعاة لترف فكري من غير ضرورة، أم أن تركه خير من نتيجته المرجوة في أحسن الأحوال .

ومن نصائح الرسول صلى الله لأبي ذر الغفاري :
" عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان ، وعون لك على أمر دينك "

ولكن يا تُرى لو خلصت النية في حوار مفيد ، ثم طرأ عليها عارض من الشيطان ، هل يحجم عن الحوار أم يستمر فيه ؟

لا ريب أن هذا من مداخل الشيطان ، بل عليه أن يستمر ، ويدعوا الله أن يخلص له قصده.

بقلم: الدكتور طارق الحبيب

تابع القراءة Résumé abuiyad

امثال و حكم

حضارتنا الاسلامية عبر التاريخ

الحضارة المغربية

تأملات

جميع الحقوق محفوظة ©2013